منصة الصباح

ضاع الوطن منذ ضاع العدل في العالم

 

 

بقلم /محمد الهادي الجزيري

هل الذاكرة رصيد لا ينفد ولا يتأثّر بشيء ، ألا يعتريها ذبول أو نحول أو مرض ما ، هل تموت وتتلاشى ككلّ شيء حيّ؟ ، هكذا يقتحم أبو سليم البياض الشاسع المفتوح أمامه..، يقتحمه بسؤال مرّ..أتضيع ذاكرة أجيال إثر أجيال ونفتّش عنها فلا نجدها ؟، بهذا السؤال الحارق يفتتح السارد حكايته ..مارّا بالمفتاح الذي وحده معلقّا في الجدار..، وإن كانت أشياء مقدسة ظلّت عالقة بالذاكرة دون أن تراها العيون لكنّ القلوب تلهج بها على مدار الساعة، مثل:
” المجزرة ، الدونيّة والنقص ، الحزن ، الذكريات المؤلمة ، الفراغ ، الجوع ، البرد ، القمل ، الأسى ، طوابير الماء ، والمؤن ، وقدم أمّي الخشبية…….”
ماذا أيضا ، أشياء كثيرة سنكتشفها في رواية ” يس ” الفائزة مؤخّرا بجائزة أفضل رواية عن مدينة القدس لعام 2022 ، التي يمنحها ملتقى المثقفين المقدسي والاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين….

نبدأ بالمجزرة غير مخيّرين ..، فالسارد أراد ذلك ، ونتوقف قليلا عند فقدان أمّه لرجلها ، لقد صوّر لنا السارد مشهدا حالكا ..تفوح منه الروائح الكريهة لهؤلاء الوحوش الأدميون ..، صوّر أمّ تحمل ابنها وتركض به بعيدا عن جبابرة مسلحين ..وحين تبتعد تصلها الرصاصة في الركبة ..، فتواصل السير والزحف حتى تصل إلى ” عين كرم ” ..لكن دون ساقها اليمنى فقد انفصلت عن جسدها ..

يقول السارد : ” شعرت بالرصاصة تخترق ركبتها ، تنفجر ، وتفتّت عظمها ، والدم يتدفّق منها ، سقطت على الأرض ، وسقطتُ من يدها ، وتدحرجت أمامها ، زحفت نحوي ، انتشلتني وأنا مغمى عليّ ، عارِ ، غارق بالدماء ، وظلّت تزحف هابطة الطريق الوعر إلى عين كرم ، وصلت إلى هناك مع أذان العشاء ، لكن ساقها اليمنى كانت قد انفصلت عن جسدها ، وظلّت عالقة في الطريق ، هناك ، بين صخرتين ..”

ماذا أضيف وماذا أكتب ..وهل ترك لي أبو سليم شيئا لأحبّره ..، ذكر الجرح واتساعه ومحيطه والمسببين به والمحيطين به قصد شفائه ..، انظروا كيف انطلت الكذبة على قائلها وعلى سامعها ، واسمعوا ماذا قال الشيوخ أصدقاء جدّ السارد ..كانت مصيبتنا في تصديقهم:
” ..الشيوخ الذين زاروه في المشفى اقترحوا عليه فترة نقاهة ، أن يخرج من فلسطين إلى مصر أو الأردن بضعة أيام ريثما تنسحب بريطانيا ، وتنتهي الحرب ، ويعود إلى بيته ، اقتنع بالفكرة وفضّل الذهاب إلى الأردن لقربها ، فاقترحوا عليه هناك أن يمكث تلك الأسابيع القليلة في مسجد الدراويش …في بيت صغير يقع بجانب المسجد .
أيّام فقط وتعود ، قالوا ، وهو صدّق الكذبة.
الجيوش العربية ستدخل فلسطين بعد انسحاب بريطانيا ، وستحرّرها من اليهود ، قالوا ، وهو صدّق الكذبة.
لم يكن يعرف أنّنا سنكون طلائع اللاجئين ، هو ، وأمّي ، وأنا ، لم يكن يعرف . ”

وصلنا إلى الفصل الثاني ..وصلنا : المخيّم …
سيرة ذاتية لكلّ من الجدّ والأمّ وخاصة السارد ..في صحوه ومنامه في غبائه وخوفه من المعلم ..واضطرابه بين ما يتعلّمه في الدرس وبين ما يفرضه الواقع من أشياء حقيقية تكاد أن ترسخ في الروح والذاكرة ..، وتعوّد الناس على انتظار موعد العودة ..بل تعوّدهم بالنكسة سنة 1967 واجترارهم لحياة المنفى والمخيّم ..، ربّما كانت حكايات الناس ..النساء والشيوخ وحتى الأطفال تدور حول ضرورة الحرب وردّ الفعل ..، برغم كلّ شيء بائس ومقرف يظلّ صوت المذياع وصوت العرب في كلّ مكان ، وكما قال السارد :
” سنحاربُ ..تقول أمّي لجاراتها
جمال عبد الناصر يعدّ العدّة للحرب ..”
في مفتتح الفصل الثالث: السجن ، نتبع السارد من وقوفه أمام المكلّف بتسجيله في استمارة حركة فتح ، إلى وصف الغرف المهيأة لاستقبال المتطوعين ..، إلى فرحه ربّما باكتشاف المهنة التي أسندت له : ” مقاتل ” ..، إلى خيبة أمله إذ لم يكن صالحا للحرب …….
أربع سنوات قضّاها في السجن.. ” في المحكمة العسكرَّية قال القاضي العسكريّ إنّه يحكم عليّ بالسجن أَربع سنوات كي يعاد تأهيلي من جديد ، لأترك الأحزاب الهدّامة ، التّي تسعى إلى تهديم الوطن “..، ضاع الوطن منذ ضاع العدل في العالم ……

أمّا الفصل فعنوانه ” الخال ” والفصل الخامس فعنْوَنَه ” الصورة ” ، وينهيهما بجملة تعني الكثير لعشاق فلسطين وشهدائها ..لجرحاها ومقاتليها ..لكلّ فرد من شعبها العالمي التائق إليها والمتحمس لها ..، هذه الجملة هي :
” ورحت أغذّ السير عائداً إلى فلسطين “

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …