منصة الصباح

أنْ تنامَ هانئاً كطفل

زايد…ناقص

بقلم /  جمعة بوكليب

 

يسودُ اعتقادٌ شائعٌ بأن التقدم في العمر ( الشيخوخة) يعني ضمنياً امتلاك الحكمة. ونحن جميعاً، استناداً إلى ذلك الاعتقاد، نتوقعُ من شخص كبير السن أن يكون حكيماً، في أقواله وأفعاله. والحقيقة التي لا مهرب لنا من مواجهتها هي، أن ذلك الاعتقاد الشائع يجانب الصواب، ولا يتسق مع الواقع الحياتي. وعلى سبيل المثال، ومن تجربة شخصية، تبيّن لي، وأنا على حدود السبعين، أنّي والحكمة نسير في خطين متوازيين. لكن ذلك لا يعني أني لا أمتلك خبرة حياتية اكتسبتها بمرور الوقت وتعدد التجارب. تلك الخبرةُ لا تعني فعلياً أنني حقاً امتلكت الحكمة، وصرتُ سُليمان الحكيم عليه السلام. وما ينطبق علىَّ ينسحب أيضاً على كثيرين جدا من أصدقائي سواء من أندادي، أومن هم أكبر سنّاً ممن عاشرتهم وخبرتهم لسنوات طويلة.

الخبرةُ الحياتية والحكمةُ أمران مختلفان. لكنّ الخبرة، في ذات الوقت، عنصرٌ مهمٌّ من عناصر مكونات الحكمة. أي أن الإنسان لا يكون حكيماً ما لم يتكسر على رأسه القلال، من كل الأنواع والأشكال، وينهل من مختلف العلوم والمعارف المتاحة. ومن الطبيعي أن اكتساب تلك الخبرات لا يتحقق بين يوم وليلة، بل عبر أعوام طويلة. وهذا يعني أن كبار السن منّا، بما امتلكوا من خبرات ومعارف، أقربُ من غيرهم لأن يكونوا حكماء. وهناك حديث شريف، لا أعلم مدى صحته، يؤكد على أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحقُّ الناس بها. وإذا ثبت صحة الحديث، فهذا يعني أن طلب الحكمة ليس قصراً على عمر محدد، بل هي هدف لكل المؤمنين والمؤمنات، ومن مختلف الأعمار. أضف إلى ذلك أن الأغريق عرّفوا الفلسفة بأنها محبة الحكمة. لكن البحث عن الحكمة ومحبتها لا يعنيان، بطبيعة الحال، اكتسابها. والاعتقاد باقتصارها على كبار السنّ يعني أن حاسة التمييز لدينا فقدت بوصلتها، وأننا نسير في الطريق غير المقصود.

الحكمة، حسب فهمي، تعني حسن الحُكم والبصيرة. وللعلم، فإن أقسام الفلسفة، بمختلف الجامعات، لا تدرّس طلابها الحكمة كمقرر دراسي. ومن الأفضل لنا ألا نتوقع أن يكون الفلاسفة حكماء، حتى وإن كان القدماء اعتقدوا ذلك، وصدّقهم آنذاك الفلاسفة، وظلوا، أينما ذهبوا وحلّوا، يوزعون ما اعتقدوا أنه الحكمة على الناس.

وهذا يقودنا إلى سؤال: هل الحكمة مقتصرة على فئة قليلة من البشر، أم فئة مختارة، أو أنها من صنع خيال انساني يهفو ويطمح إلى الكمال؟ أنا لا أعرف جواباً عن السؤال. وعلى استعداد للاستفادة من كل من يستطيع أن يدلي بدلوه في الموضوع بما يفيد. لكن ما عرفته، بمرور الوقت، هو أن امتلاك الحكمة يزداد بُعداً ومشقة، خاصة مع تطور الحياة البشرية وتعقيداتها ومتطلباتها التي لا تنتهي. وما أريده وأتمناه شخصياً ليس أن أكون حكيماً، بل أن أعيش في سلام مع نفسي ومع من حولي. وأن أحظى بالشعور بالرضا عن النفس. وقد يكون هذا الطموح هو ملخص كل ما اكتسبت من حكمة في كل حياتي. وهو طموح ليس بالهيّن.

الرضا عن النفس يعني أن تأوي إلى فراشك، بعد تعب نهار، وأن تنام هانئاً كطفل، من دون احساس بندم، أو بذنب، أو بوخز ضمير. ولا بأس مطلقاً إن راودك في النوم حلمٌ بامتلاك الحكمة، وقبل أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …