منصة الصباح

أخيراً….تكلمت غدامس

زايد…ناقص

جمعة بوكليب

 

حين تطلُّ واحةُ غدامس ببياض بيوتها، و بظلالِ نخيلها في الأحاديث، تنبثقُ  في ذهن المرء منّا صورةٌ لواحةٍ  في صحراء بعيدة، تشعُّ بهاءً، وتحيلُ على مجد ماضٍ دوّنه مؤرخون ورحالة ومغامرون وتجار، وفدوا إليها على مر العصور.  وفي ما يعترضنا من صورها، تظهرُ غدامس  متألقةً كعروس. واحةٌ كانت جسراً وصل الشمال بالجنوب، وأفريقيا بأوروبا، وطواها النسيان.

لكن غدامس، إلى وقت قريب، ظلت واحة بلا لسان، وإن تكلمت أكثر من لغة. كان السؤال: لماذا لا تتكلم تلك الجوهرة ؟ وكيف تختبيء في الصمت في بقعة مفتوحة على كل الجهات واللغات  والثقافات؟ ومتى نستشعر رقة هسيس جريد نخيلها؟ وهل ستفتح لنا قلبها يوماً  لنرى ونلمس إيقاعات الحياة في حنايا أزقتها، وفوق سطوح بيوتها،  وما يدور تحت سقوف أزقتها؟

الواحة المفتوحة موصدة القلب. و الغدامسيون جزءٌ من مكونات فسيفساء هذه البلاد. لكننا لا نعرفهم حقاً.  ولم يبرز من بينهم مبدع يفتح لنا ما وصد من أبواب، ويمهد أمامنا الطريق لندخلها في رفقته، ونتعرف على بشرها وعلى رموزها وطقوسها، ونلمس أوتار أحلامها، و أحزانها.

وكان لزاماً علينا، لكي نعرف ونفهم ونتواصل مع  تلك الواحة الليبية البعيدة،  أن ننقب عنها فيما تركه لنا الغرباء من رحالة ومغامرين من كتابات.  وما كتبه الغرباءُ لن يكون مطلقاً بطعم ما  يكتبه الغدامسيون بأنفسهم. لكن الغدامسيين على ما يبدو كان لهم رأيٌ آخر. وبمرور الوقت، وتراكم الأحداث،  واصلنا  نحن حياتنا معهم ومن دونهم. وبدورهم واصلوا حياتهم معنا ومن دوننا.

العلاقة بالصحراء وكائناتها ورموزها وكهوفها وجنونها كشفها لنا رحالة غربيون، لكن من ألبسَ تلك الكائنات اللحم، وأجرى في عروقهم الدماء، وجعلهم يحسّون ويتوجعون، ويفرحون ويحزنون،  ويتقاتلون ويعشقون، ويرقصون ويغنون،  كان تارقياً، وروائياً من طراز فريد اسمه إبراهيم الكوني. ومن قبله، لم يكن الطوارق سوى كائناتٍ غريبة مثيرة للفضول.  نراهم في الملصقات السياحية، والأشرطة الوثائقية الدعائية. ولولاه لظلوا كذلك، واستمر جهلنا بهم وبثقافتهم وبأحلامهم، وبما يدور بينهم وبين كثبان رمال الصحراء من جدل وصراع وحياة.

وغدامس جزءٌ من الصحراء، لكن العلاقة بها ظلت غائمة، وسياحية إلى حد بعيد، حافظت على صورتها التقليدية، وبلا روح. و فوجئنا، مؤخراً، بمن يأتينا قادماً من تلك الواحة الموصدة البعيدة، محمّلا بتوق للتواصل، والكشف عما خفي عنّا، و ليطرق بخجل أبواب قلوبنا. إبراهيم الإمام، وهذا اسمه،  كاتب شاب غدامسي القلب واللسان، وصلنا بثقة  حاملاً في يديه مفاتيح تلك الواحة، ليفتح لنا الأبواب، ويضيء أمامنا الطريق، ويكشف لنا العلامات والرموز ويقرأ لنا التعاويذ و الابتهالات والأدعية. والوسيلة: موهبة أدبية لافتة للأنظار. وبالتأكيد، هذا لا ينفي وجود كتاب ليبيين من أصول غدامسية. إلا أنهم ولدوا وشبوا وتعلموا في المدن. وحسب علمي، فإن إبراهيم الإمام هو أول غدامسي، يأتينا من غدامس، ليرسم لنا ابداعياً خريطة طريق إلى قلبها، لمن أراد. ويتقن تذليل صعاب الطريق، و يجيد مراوغتها ليصل إلى هدفه. وهدفه  ليس بسيطاً ولا صغيراً، لكنه، على الأقل، واضح المعالم: أن ينفض ما تراكم من رمل  عن تلك الجوهرة العتيقة، ويبرزها لكي يراها العالم، وهي تتألق مضيئة تحت شمس الصحراء. وأن يرفع عنها الحجب،  لكي تتكلم روحها، ويفيض نبض وجدانها. قرأتُ له روايتين من الحجم الصغير. و منهما أدركت أننا ربما نكون محظوظين، ونكون شهود عيان لمولد روائي ليبي متميز، جاء من واحة بعيدة، اسمها غدامس، لا نراها إلا في الملصقات السياحية.

اقرؤوه.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …