زايد..ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
طرابلس مرّة أخرى. يارب السموات والأراضين، تبث قلب المُحبّ عند اللقاء هذه المرّة.”عامين في همّ الجفي والغربة” لم يرها، أو تلفح شمسها أخاديد وجهه الهرم، وتصهد حرارتها شحوب ملامحه مثل عجين رغيف، فيستعيد سُمرته وطزاجته. خلال فترة غيابه، ظلّ العالمُ يدور في حَبّة كُسبرة، حتى صارت الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس. وكان هو مثل الدينا ومثل الناس. لكنّه أختلف عنهم قليلاً لحرصه على أن يكون دوماً قريباً بعيداً منها في ذات الوقت، وأن يكون الغائب الحاضرفي تفاصيلها الكثيرة. في أختلاف فصولها وأحوالها، وتقلب أيامها. الفرق هذه المرّة ، بسبب انتشار الوباء الفيروسي، أنه لا يرى من وجوه الطرابلسيين إلا سواد عيونهم. لكن الضجيج مازال على عهده به، منذ أن غادرها، ذات صباح شتائي.
خارج بوابات مطار معيتقية، تمنّى لو يفتح صدره شقّين ليتمكن صحو السماء الخريفية من الحلول داخل قلبه، وطرد ما تراكم خلال فترة غيابه من سواد غمام وأحزان واحباطات، ومخاوف، تراكمت سريعاً في سمائه في العامين الأخيرين. تمنّى لو أن شقيقه الأصغر، الجالس وراء مقود قيادة السيارة، التي تقلهما عائدة بهما إلى حي الظهرة، أن يتمهل قليلاً، كي يستوعب المشهد بأدق تفاصيله، ويتيح لذاكرته حفظها: تفصيلة إثر تفصيلة.
تمنّى لو أن شقيقه يتذكر علاقته القديمة ببحرها، ويقرر، وفقاً لذلك، التوجّه بالسيارة نحو الشاطيء القريب من المطار، ويتوقف قليلا ً، لكي يتيح له فرصة الهمس إلى زرقته بفرحته باللقاء بعد انقطاع. لكن شقيقة كان منهمكاً في سرد أخبار الغياب: الذين ماتوا ودخلوا كهوف النسيان. والذين ضاعوا في مسارب الزمن، وتلاشوا في حناياه. الذين اقترفوا جريمة السكوت. والذين ارتكبوا جريمة المشاركة في سرقة الفرح من قلب المدينة. الذين ابتعدوا نائياً بأنفسهم عما حدث ويحدث من مصائب وخراب وتجاوزات ومخالفات وسرقات. شقيقه الأصغر سنّاً، وقع قبله فريسة للزمن، فمضغه بلا رحمه، حتى بدا لمن لا يعرفهما أكبر منه عمراً. كان يدخن بشراهة ويتحدث. وكان هو يستمع بأذنيه، وكانت عيناه معلقتين بزرقة البحر، وهو يستقبل صباحاً آخر. كانت عيناه عدستين لا تتوقفان عن التسجيل.
لم يكن نهار وصوله يوم عطلة. لكن حركة مرور السيارات على الطريق في ذلك الصباح الباكر، على غير العادة، كانت خفيفة، أشعرته بان المدينة لم تنفض بعد عن عينيها نعاس البارحة. وكأن مدينته قد هجرت طرائقها القديمة، ولم تعد كالسابق على علاقة وطيدة بالفجر كما كانت. ويبدو أن تقدمها في العمر، أو في الحزن، أو في الاثنين معاً، وما علق في قلبها من شوائب الدهر، قد جعلها تفضل البقاء في الفراش، تجنّباً لما لم تعد تحب أو ترى. لكن ايقاع نبضات قلبه داخل صدره كانت، رغما عن ذلك، تدق بايقاع سريع.
لدى مغادرته بالسيارة مطار معيتقية، لاحظ أن لا أحد ممن كانوا خارج المطار استرعى انتبهاه صحو سماء وليدة في نهار خريفي هاديء وساكن، ورائق. لا أحد أهتم بالنظر إليه أو الترحيب به. لا أحد اطلاقاً قال له أهلاً. والسيارة لا تتوقف عن السير، وقلبه لا يتوقف عن الارتباك. الغريب أن الطريق تمتد وتمتد إلى ما لا نهاية، رغم قصر المسافة : لماذا؟