زايد..ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
رحمَ الله الأستاذ عبد الله كريسته، وجزاه عن تعليمنا واسعادنا كل خير. عبر برنامج ركن الأطفال الإذاعي، الذي كان يشرف عليه ويقدمه، ويكتب له الأغاني والأناشيد الموسيقية، التي أحببناها وتعلقنا بها في طفولتنا، ظل، بدأب وبحب، يغرس ويتعهد بالرعاية، في حنايا قلوبنا الصغيرة، بذور حب وطن كان في طور التحقق. و يشجعنا على التنافس في طاعة الوالدين والإحسان إليهم. و ينبهنا دوماً إلى ضرورة احترام وتوقير الجيران. ويحثنا على السهر والاجتهاد في الدراسة لتحقيق النجاح. فصدقناه، لذلك السبب، وبمرور الزمن، نمت وترعرعت بذور حب وطن في قلوبنا لم يتحقق. و كرسنا حياتنا في طاعة الوالدين. واحترمنا ووقرنا جيراننا. وسهرنا واجتهدنا حتى تمكنّا من تحقيق طموحاتنا الدراسية، واجتزنا، بجدنا وعملنا، ما كان يعترضنا من حواجز وصعوبات.
وحين علقنا أثواب المدارس وحقائبنا المدرسية، للمرّة الأخيرة، على الجدران، ودخلنا آملين عالم الكبار، تبيّن لنا أن الأيام والليالي التي قضيناها في الكد والكدح، على مقاعد الدراسة، لم تضع هباءً. وأن علمنا، الذي تعلمناه، كان سلاحنا الذي أهلنا لخوض معركة بناء المستقبل: مستقبلنا كأفراد، والمساهمة في تشكيل مستقبل بلادنا وشعبنا.
ولأن عجلة الزمن لا تكف عن الدوران، والدنيا لا تتوقف عن التقلب والتغير، ومعهما يتقلب البشر ويتغيرون، وجدنا أنفسنا نعيش في أوقات أقل ما يقال في وصفها أنها عجيبة غريبة، و بمعايير عائمة متغيرة، وبقيم لا علاقة لها بما تربينا عليه وتعلمناه . وأكتشفنا أن الوطن الذي كنا نغني له الأغاني والأناشيد صار حكراً على فئة قليلة. وأن السهر والاجتهاد، ليس كافيين للمرء منّا كي ينجح في حياته. وشاهدنا بأم أعيننا، نوعا ًجديداً من الناجحين. لم يسهروا ساعةً منكبين على كتب، ولم يؤدوا في كل حياتهم الدراسية واجباً مدرسياً، ويمقتون الاجتهاد. و قضوا كل حياتهم الدراسية في لهو ولعب. لكنهم، للأسف، قفزوا كلاعبي قفز بالزانة، وطاروا في الهواء، متخطين كل الحواجز والموانع. حتى أنهم لحقوا بمن سبقوهم، وتخطوهم في في المراتب، وجلسوا في كراس أكبر من أحجامهم، وتولوا إدارات دواوين لا يفقهونها. ورغم فشلهم الذريع في أداء أعمالهم، واصلوا الصعود و ازدادوا ثراءً ونفوذاً. وأمتلكوا الدارات والزوجات والسيارات الفارهة، وكل ذلك تمّ من دون مؤهلات علمية، ولا خبرات. وصعودهم المهني تأكد عبر قنوات خلفية كثيرة، وشديدة الالتواء. أهمها كان الولاء لسيد النظام العسكري، وعلاقة الدم والقربى به وبمن كانوا يلتفون من حوله. وحين سقط النظام، لم يسقطوا، وواصلوا الصعود والترقي، نتيجة ما اكتسبوه من معارف وخبرات ومهارات وأموال في السنوات السابقة.
بالسهر بالاجتهاد. هذا ما كنّا نردده ببهجة وحبور، مع جوقة مغنين أطفال، في برنامج ركن الأطفال، وهم يغنون عبر أثير الإذاعة الليبية، في شارع الزاوية، صباح كل جمعة، تحت قيادة وإشراف المرحوم الأستاذ عبد الله كريسته، و برفقة موسيقيين وآلاتهم الموسيقية وأيقاعات طبولهم. وكنا سعداء حقا، ونحن نسمعهم ونردد ما يقولون. لكن تبيّن لنا فيما بعد أن السهر والاجتهاد، بالنسبة لكثيرين، ليسا الطريق الوحيد المتوفر للنجاح. وأن طرقاً أخرى عديدة متوفرة، وممهدة يمكن استكشافها، والسير فيها براحة من دون تعب ولا خوف. وتبيّن لنا، بعد عقود زمنية، أننا خُدعنا، لأننا صدقنا ما كانت تردده جوقة مغنين أطفال في برنامج أطفال، تحت سقف مبنى إذاعة قديمة، في شارع قديم، على مقربة منه، تتراص متزاحمة بيوت أناس فقراء، يكدون ويتعبون، نهاراً وليلاً، من دون أن تتغير ظروف حياتهم للأفضل. ياحسرة!