جمعة بوكليب
قرأتُ مؤخراً ادراجاً على صفحة الكاتب الصحفي جمال الزائدي، في وسائط الاعلام الاجتماعي ( فيسبوك)، يتحدث فيه عن ركوبه «أتوبيس» من منطقة سكنه إلى منطقة محل عمله لأول مرّة. فغمرني فرح بعودة «الاتوبيس» إلى شوارع طرابلس.
ومن دون أن أشعر وجدتني عائداً بذاكرتي سنوات طويلة إلى الوراء، حين كانت حافلات النقل العام (الاتوبيس) مفردة من مفردات الواقع الطرابلسي خصوصاً والليبي عموماً، ووسيلة مهمة من وسائل النقل العام: رخيصة ونظيفة، وأجواء رحلاتها سهلة ولا تخلو من مقالب وحكايات طريفة أومحزنة. وتابعت بشغف ما خطّه قلم جمال على صفحته بأسلوبه الرشيق من وصف لرحلتة الاتوبيسية الأولى، وما ألتقطت عدستا عينيه من لقطات ذكية. معرفتي الشخصية بجمال ليست قديمة، لذلك لا علم لي بفارق السنّ بيننا. لكنّي أخمنّ أنه ربما، في مرحلة ما من عمره، عرف واستخدم الحافلات العامة، قبل أن يفعل بها الزمن فعلته، وتختفي كلية من حياتنا.
وبقدر فرحي بعودة الاوتوبيس، وما تمثله من خطوة حضارية متقدمة، وما قد تساهم به من جهود نأمل ان تعمل على التخفيف من أختناقات أزمة المرور في شوارع المدينة، إلا أنني شعرت بشيء من احباط. والسبب هو أن حلول الحافلة ولجوء جمال إلى استخدامها في تنقلاته اليومية، قد يحرمنا من متابعة كتاباته اليومية عن عالم سيارات الأجرة العامة، المعروفة شعبياً باسم الافيكوات.
وهو عالم غريب جداً، وباعث على الكآبة ، وقد يكون مدعاة لكوميديا سوداء، لكنه قد يتحوّل أيضاً إلى كابوس في وضوح النهار. وشخصياً، أنا مدينٌ لجمال على مساعدتي على تجاوز خوفي من عالم الايفيكوات، الذي سبق لي أن عرفته ولكن عن بُعد وبحذر شديد، ولم أتجاسر إلا مرات قليلة، لا تتجاوز أصابع يد واحدة، على الاقتراب منه والتعامل معه. وقرأت أن جمال قام بتجميع تلك البورتريهات الفيسبوكية السريعة، وطبعها في كتاب، بحيث يمكن الاحتفاظ بها والرجوع إليها من حين لآخر لمن أراد. وهي خطوة طيبة جداً، وأمل ان يجد الكتابُ من القرّاء والنقاد معاً ما يستحق من أهتمام، لأمرين: أولهما أن كتابات جمال ذات الصلة بالافيكوات متميزة عن كتاباته الأخرى، التي ينشرها سواء على صفحته الفيسبوكية أو في الصحف. في ايفيكواته، يستحوذ جمال بذكاء على ذهن القاريء منذ البداية، وهو يستعد لبدء الدخول في تفاصيل نهار آخر، من العيش في واقع حياتي لا يبتعد في كثير من تفاصيله عن عوالم السوريالية. وينجز ذلك في سطور قليلة من دون اطناب ممل أو بلاغة انشائية مضجرة. وثانيها أن جمال يحرص في تلك البورتريهات السريعة على اطلاق العنان لعينيه ولأذنيه ولقلبه وعقله ولأسئلته للتجول في أنحاء تلك المركبة، ولرصد ما يدور من تفاعلات سواء في نفسه أوبينه وبين محتوياتها الانسانية من المواطنين البسطاء والغلابة، ويتم ذلك من خلال حوارات شديدة القصر وعميقة الدلالة، تحيل على مواقع الوجع الانساني، ومحنة العيش تحت طائلة الحاجة في بلد متخم بالثروات، ويحكمه لصوص، كما وصفته السيدة ستيفاني ويليامز نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة سابقاً، في مقابلة أجرتها معها صحيفة الجارديان اللندنية في وقت سابق.
الافيكوات – التعليقات – البورتريهات، لا تهم التسمية، تعد مثالا لكتابة التعليق الصحفي اليومي السريع. ضربات خطوط سريعة على لوحة الصباح، تطالعها عيون القراء سريعا في مقهى، أو في رحلة ايفيكو، لكن تأثيرها في النفوس والأذهان لا ينتهي بانتهاء القراءة بل يبدأ في الواقع عقب انتهاء القراءة، ولا يتوقف.