زايد…ناقص
جمعة بوكليب
الحياة، من البداية إلى النهاية، مسافات تطول وتقصر وفقاً للظروف، على المرء منّا قطعها- حبواً أو زحفاً أو مشيا أو ركضاً، وفي بعض الحالات طيراناً- .أصعبها وأدقّها، في وجهة نظري، ما يمكن أن نطلق عليه الفواصل والجسور، ونعني بها تلك التي تعلّم لنهاية مرحلة حياتية وبداية أخرى. الموتى لا تعنيهم المسافات. وهم لذلك السبب لاغير، يفضلون البقاء والمراوحة في نفس المكان. الأحلام المجهضة، أيضاً، تفقد أقدامها، أو بالأحرى تفقد أجنحتها، وتصير كسيحة، تنظر بعينين متحسرتين إلى سماء طليقة ومشتهاة، أضحت مستحيلة الوصول كفاكهة محرمة. والحب له قوانينه الخاصة التي تتحدى قوالب التعريفات البشرية بتعددها، وحدودها المقلقة، وتهزأ ساخرة بالمسافات وما ترسمه من حدود. وربما لهذه الأسباب يظل الحب، رغم تقادم العهود، وإلى حدّ بعيد، خارج نطاق الفهم والاستيعاب. وربما لذلك السبب، أو لأسباب أخرى لا أعرفها، صار حبي نازحاً في وطني، وأضحيت أنا نتيجة لذلك شريداً في أرض الله، بحثاً عن أوطان تؤويني مع طيور سمائي المنفية، واسماك بحري المهاجرة، وحروف كلماتي، وشجر أحلامي.
ما يلفت الاهتمام في مسألة المسافات، هو أن الفرق في المسافة بين الصرخة الأولى والزفرة الأخيرة، تحدده دائماً ظروف خارج نطاق السيطرة الذاتية، وفي بعض الأحيان، حتى ما تعارف عليه البشر من عادات وأعراف وتقاليد، وما تختاره المجتمعات والأمم من نظم ولوائح وقوانين. والفرق بين الحدود التي تحرص على ترسيمها المسافات وقوانين الحب الخاصة، ودروبه الماكرة، هو أن قوانين الحب على قدر غرابة سلوكها، وعلى عكس حدود المسافات، تتيح لنا كبشر فرصة شحنها، في مرحلة، أو مراحل حياتية معينة، بطاقة حيوية، تغير من طبيعة الحب وتغيرنا معه، وتمنحنا فرصة للتاثير عليه، بغرض تغييراتجاه بوصلته نحو سموات قلوبنا. تلك الطاقة السحرية الحيوية اسمها الحقيقي الاحلام والطموحات.
الأحلام أنواع عديدة. بعضها، لاعلاقة له بالواقع المعاش ولا امكانياته الكامنة، بل أقرب ما يكون إلى الأوهام والتخاريف التي تسبح هائمة في سموات النفوس والقلوب والعقول، ولا سبيل مطلقاً أمام بذورها للاستقرار في تربة، وتعميق الجذور والإزهار والتحقق. وهناك نوع آخر، يتسم بالصغر والجاذبية، ويحب العيش بعيداً عن سماء الأوهام، وقابل للتحقق والإزهار والاثمار. هذا النوع قد يكون في بعض الأحيان سلعة نادرة، لأن الناس، في عصر الالكترون، لم تعد ترضيها الأحلام الصغيرة. الناس في عالم اليوم يختلفون عن أسلافهم، لأن العولمة جعلت عالمهم صغيراً وكبيراً في نفس الوقت. وما يحدث فيه من تطورات وتغيرات وأحداث سرعان ما يتلقفها البشر في جميع أركان الأرض، ولم تعد المسافات الجغرافية حاجزاً يعيق التواصل الانساني. لكن العالم، رغم صغره، جعلته التقنية ذاتها كبيراً. وما كان مستحيلاً كالعيش في كوكب آخر كالمريخ صار في حكم الممكن نظرياً على الأقل. المشكلة أن ما فعلته التقنية بالمسافات جغرافياً، فشلت في تحقيقه مع الحب. وبمعنى آخر، كلما ازدادت التقنية تقدماً تقلص التواصل البشري اليومي الواقعي، المتكون من لحم ودم ومشاعر واحاسيس واعصاب. هذا الانكماش في التواصل الحي والحار والطازج، بعيداً عن الالكترونات والشاشات والفيسبوكات وغيرها، حوّل البشر إلى كائنات تعيش في عالم افتراضي، أدى إلى ضمور حرارة الالتقاء والتواصل البشري، حتى كاد الناس ينسون لسعة الحب في تشابك أيادي العاشقين، وما يسري في خلايا أبدانهم من ارتعاش حميم.
الحب في زمن الفيسبوك وغيره من اختراعات التقنية مختلف، وله قوانينه الخاصة وتضاريسه الكترونية، وليس في متناول الجميع، خاصة ممن فاتهم قطار التقنية.