منصة الصباح

تحايل مقصود

 

زايد ..ناقص

جمعة بوكليب

 

“عادة، تظهر خطوط القلق في الوجه الإنساني حول العينين. خطوط الضيق تحيط بالفم.” هذة المعلومة، أو الجملة، ليست من شطحاتي، بل قرأتها، مؤخراً،  في رواية أمريكية مشهورة تسمى “عناقيد الغضب” للكاتب الامريكي “جون شتاينبك”، وصدرت في الثلاثينيات من القرن الماضي. وهي رواية عظيمة  تتناول فترة تاريخية محددة ،وهي فترة آواخر العشرينيات من القرن الماضي ،التي اتسمت بالكساد العظيم وبالجفاف، من خلال تتبع حياة مزارع وأسرته في ولاية أوكلاهوما، اضطروا إلى ترك مزرعتهم، بعد أن أخفقوا في سداد ديون المصرف، بسبب الجفاف. ودُفعوا نحو  الرحيل إلى ولاية  كاليفورنيا، مثل غيرهم من بقية العائلات، على أمل بدء حياة جديدة.  الرواية فازت بجائزة البوليتزر، وحولت إلى شريط سينمائي من بطولة الممثل هنري فوندا. ورغم الحزن الذي يثقلها، والمعاناة التي تواجهها تلك العائلات في الطريق، فان القاريء  لتلك الرواية لا يمل من قراءتها والغوص في عوالمها والتنقل مع شخصياتها من “آل جود”. ويتابع بآلم وبمرارة، كيف يتحول النازح الأمريكي إلى شريد في وطنه، عرضة للاستغلال والابتزاز، والحطّ من انسانيته.

وعلى ما أذكر فأنني، عقب قراءتي للرواية، ظللت كلما شعرت بقلق سارعت بالوقوف أمام أول مرآة تقابلني،  في محاول للتأكد من وجود تلك الخطوط حول عينيَ. لكنّي، وهذا أعتراف، في كل مرة فعلت ذلك، لم أر خطوطاً، ولم أرصد حول عينيّ شيئاً غريباً، وإن رصدت داخلهما أشياء أخرى مريبة لا علاقة لها سوى بتقدمي على درجات سُلم الزمن، أضف إلى ذلك، أنهما مغيّمتان بأشياء أخرى أكثر عمقاً، وربما أشدّ ألماً  لم أجد لها تفسيراً. لكنّي، من جهة أخرى، وهذة حقيقة، صرتُ، بالمران، أرصدُ  تلك الخطوط  وهي تحيط بعيون أشخاص آخرين. وكنتُ كلما لمحتها في ملامح شخص آخر أدرك على التوّ، أنه يعاني من قلق. لذلك وصلت إلى قناعة مفادها أن الشخص القلق لايمكنه من رؤية خطوط قلقه تحيط بعينيه، لكن باستطاعة الآخرين رصدها. وبالتأكيد، هذة القناعة، على وجاهتها بالنسبة لي، قد لا تجد قبولاً من آخرين. وحتى وإن حدث ذلك، فهذا لا ينفي حقيقة أن الوجه الانساني مرآة لما يدور في دواخل حامله من مشاعر وأحاسيس سواء أكانت مفرحة مبهجة، أو محبطة ومحزنة. والمرء منّا قد لايشعر بذلك، لكن شفافية ملامح الوجه تظهر تلك المشاعر والأحاسيس المخفيّة. ولعل المثل الشعبي الليبي القائل :” لاجيت تنشد عالحال، الوجه يعطي لاماير” يغوص إلى القلب من هذه الحقيقة. لكن هذا، في الواقع، ليس ما أنتويته من غرض لهذه السطور، وانما أخترته، قصداً، ليكون جسراً أعبره للحديث  عن الفرق بين المؤرخ والروائي حين يخوضان في التعامل مع واقعة تاريخية  معروفة وبأدوات مختلفة.   ومن المفترض ان يكون المدخل قصيراً، لأن طول الخيط يضيّع الابرة.  لكن في بعض الأحيان، تفلت الأمور من الكاتب ويجد نفسه وقد نأى بنفسه عن هدفه، وأنساق وراء هدف آخر لم يكن في حسبانه. والذين امتهنوا حرفة الكتابة، ربما أدركوا الموقف الذي وجدتني فيه من دون قصد، نتيجة لشرودي. وما يحدث للكاتب قد يحدث لغيره من الناس لدى انصرافهم لتحقيق أهدافهم في الواقع الحياتي. وبدلاً من ذلك تنحرف بهم الظروف، ويجدون أنفسهم موغلين في طرق ودروب بعيدة  عن مسارات أهدافهم المرصودة.

وقد يفضل البعض أن يصف ذلك بشرود العقل. ويفضل البعض الآخر وصفها بمشيئة القدر. والحقيقة، فإن الوصفين ليسا سوى محاولة خجلة، لاخفاء حقيقة اخفاقنا في تحقيق ما أنتوينا من أهداف.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …