منصة الصباح

عن المدن وعنّي

زايد …ناقص

بقلم /جمعة بوكليب
ما أجمل الطبيعة في الريف، وما أحلى السكون، وطيب الهواء، وانفساح الكون وخضرة الشجر والعشب. لكني، وهذا أعتراف، لاأحب الأرياف، وأمقت أجواءها المستسلمة للسكون والدعة والخمول، وأجدها مضجرة وخاملة الحياة، وأفضل عنها الاندغام في زحام المدن,
أيام دراستي في جامعة ريدينج، كان زملائي في الدراسة المقربين لايتجاوزن أصابع اليد الواحدة، جاءوا من مختلف المدن في بريطانيا. وكانوا حريصين، أيام العطلات الاسبوعية، على القيام بجولات في المناطق الريفية المحيطة بمدينة ريدينج، عاصمة مقاطعة باركشاير المقاطعة الملكية كما يسمونها، والتي تحظى بأرياف وقرى ساحرة.
وخلال المرات القليلة التي رافقتهم فيها، كان الملل يعتريني، منذ مغادرة بيتي صباحاً وحتى عودتي إليه مرهقاً من التعب مساءً. الريف لا يثيرني. والقرى الصغيرة المتناثرة كنجوم معلقة في سماء بعيدة في أرجائه تشعرني بالضجر. وأذكر أنني في عام 1990 قمت بزيارة إلى قرية في تركيا تسمى أولودونيز تبعد مسافة 500 كليومتر عن اسطنبول وتقع بين بحر وجبل، ورغم فتنة جمالها، وسحر زرقة بحرها، كان أسعد أيامي بها يوم أن غادرتها.
المدن ما يثيرني، وما يضرم نار شهوة خيالي، ويجعل نبضات قلبي تتسارع حتى أكاد أطير، من شدة الاستثارة، بلا جناحين، وتجعلني أخاصم النوم، خائضاً في شوارع لا أعرفها، ارضاءً لفضول لايشبع يعيش داخلي. هذا الشغف بالمدن، وما تحدثه من اثارة في نفسي، وما تحركه في قلبي من مشاعر، وفي عقلي من فضول، وفي خيالي من شهوة، ربما يعود سببه إلى ما في المدن من حياة وصخب، وما يموج في قلبها من تناقضات، وما تعج به أحياؤها وشوارعها من بشر يتحركون مليئين بالحياة في كل الاتجاهات. وربما، أيضاً، إلى ما تمنحه من فرص للتواصل والتعارف والثرثرة مع أناس لا نعرفهم ولا يعرفوننا، نلتقيهم للحظات لاحتساء فنجان قهوة قبل أن تبتلعهم المكاتب والمصانع، ومشاغل الواقع اليومي.
العلاقات الشخصية بالمدن، لاتتشابه، وتتفاوت في درجات اختلافها واحدة عن أخرى، لأن لكل مدينة قلبا متميزاً، ومذاقاً مختلفاً، وطعماً لايماثل. كأختلاف روما التي أرضعتها ذئبة عن باريس وهي تلاحق السماء من برج ايفل. الاختلاف يعود إلى تمايز الأرواح. أنا أؤمن أن لكل مدينة روحاً فريدة. وأرواح المدن تتميز بأنها بجذور عميقة ومتطاولة، وبأغصان وأجنحة غير مرئية. فالمرء حين يزور مدينة للمرّة الأولى، يشعر وكأنه داخل شعورياً في مدار كوكب غريب، وجديد، ومثير للفضول، وبمذاق لم يتذوقه من قبل. أول مرة زرت تونس عام 1970 كاد قلبي، من شدة دهشته، أن يتوقف عن النبض بهجةً. وحين زرت القاهرة، في العام التالي، كنت أطوف في شوارعها، بلسان معقود، وبقلب مأخوذ بسحرعالم أسكرني بلا خمر فأمتلات غبطة. وفي روما ظللت، طيلة أسبوعين، أجوب أحياءها على قدمين مفتشاً عن روما تخصّني وتكون لي وحدي، لكني أكتشفت أن روما، للأسف، مدينةٌ ظلت منذ أن أحرقها نيرون من شدة العشق، بقلب لا مكان به للخصوصية، وبعقل مفتوح على حقب التاريخ والأجيال. لكني، بعد مرور عقود من الزمن، حين زرت الدوحة، ذات صيف ناري، تبيّن لي تميّزها عن كل ما عرفت من مدن، بكونها مدينة بلا روح.
المدن، في زمن الوباء الفيروسي هذا، على اختلافها، وعلى عكس الأرياف الخاملة، تعاني من محنة الفراغ، وتشتكي مما أحاق بها من ملل وضجر، وما أصاب قلوبها العاشقة من هجر، سرق بهجتها، وايقاع الحياة من عروقها، فبدت، كالأرياف المحتضرة، كئيبة، قلقة، مرتبكة، غارقة في أحراش صمت أخرس.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …