منصة الصباح

دعوة لانقاد الاقتصاد الليبي

         د. محمد ابوسنينة

مند أواخر عام 2017 انطلقت دعوة للإصلاح الاقتصادي في ليبيا ، وأعد لذلك برنامج متكامل ، عرف ببرنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي ، وكان هذا البرنامج ثمرة لجهد خبراء ومختصين ، وبدعم مؤسساتي وجهد مشترك بينها ، تضمن حزمة من السياسات الاقتصادية ( النقدية والمالية والتجارية ) ، ولعل اهم ملامح هذا البرنامج وعلى رأس أولوياته ؛ تصحيح سعر صرف الدينار الليبي و معالج دعم المحروقات ، بالإضافة إلى إصلاح المالية العامة للدولة .  هذا البرنامج لم يجد طريقه للتطبيق ، وفقًا للأهداف المرجوة  والسياسات الاقتصادية التي تظمنها والاطار الزمني المحدد له ، بسب الانقسام السياسى والمؤسساتي ، والأوضاع الأمنية المتردية . ولعل أهم عائق واجه تنفيد البرنامج هو انقسام مجلس ادارة مصرف ليبيا المركزي ، واضطرار المصرف المركزي الموازي لطباعة العملة لتمويل الحكومة الموءقتة وتوفير السيولة، ومن تم غاب دور السلطة النقدية الواحدة وتعطلت مهامها  وادواتها ، وتعذر تنفيد البرنامج في ظل وجود حكومتين في دولة واحدة وعدم اهتمام السلطة التشريعية بالبرنامج . وقد نجم عن ذلك استمرار الاوضاع المتردية للاقتصاد الوطني و ارتفاع سعر صرف النقد الأجنبي في السوق الموازية ليصل إلى مستويات غير مسبوقة ، مدعومًا باجراءات الرقابة على الصرف الأجنبي  ، بالاضافة الى عدم  استقرار معدلات استخراج وتصدير النفط ، وظهور  أزمة سيولة غير مسبوقة في القطاع المصرفي الليبي . وبالرغم من ذلك ظل الإنفاق العام يتزايد من سنة لأخرى في إطار ما يعرف بالترتيبات المالية  التي تفاقم في ظلها الدين العام الذى ساهمت فيه حكومتي الوفاق والمؤقتة ، وكان كل ذلك باجراءات  مخالفة لما تضمنه برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي وقانون الدين العام .

في عام 2018 لجأ المجلس الرئاسى ، بالتنسيق مع مصرف ليبيا المركزي في طرابلس ، إلى فرض رسم على مبيعات النقد الأجنبي بواقع  183٪؜، خفض الى 163% كسياسة بديلة لتعديل سعر الصرف الرسمي التي أوصى بها برنامج الإصلاح الاقتصادي . هذه السياسة لم تكن مستهدفة أصلا في برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي المنوه عنه . وبالرغم من ذلك سميت هذه السياسة إصلاحا اقتصاديا تكلفاً ، بل تم اختزال الاصلاح الاقتصادي باكمله في هذه السياسة  ، بالرغم من انها لم تكن من بين ادواته الموصى بها ، حيت لم تتجاوز الإجراءات المتخذة فرض رسم على النقد الأجنبي ، وكان من المفترض ان يعقبها تعديل سعر الصرف الرسمي للدينار ، غير ان سعر الصرف الرسمي للدولار  بقى عند 1.4 دينار  ، واستمر برنامج دعم الوقود على ما هو عليه وزادت فاتورة المرتبات ، ضمن الباب الاول من الميزانية العامة ، واستمر انقسام المؤسسا ت السيادية ، وكنتيجة لذلك وعوضا عن توحيد سعر الصرف اصبح لدينا ثلاثة اسعار للصرف الاجنبي . ونتيجة لهذه السياسة وبسبب توقف تصدير النفط واستمرار حالة الاحتراب والانقسام السياسى فقد تاثرت اساسات الاقتصاد الكلى سلبا ، وتعمقت الازمة التي يمر بها الاقتصاد الوطني . فقد زاد بند المرتبات بالترتيبات المالية من 23.6 مليار في عام 2018 الى 24.5 مليار دينار بنهاية عام 2019وانخفض اجمالي الايرادات العامة  من 35.9 مليار دينار  الى 31.0 مليار دينار وزاد اجمالي الانفاق العام من 40.5 مليار دينار الى 45.8 مليار دينار مضاف  اليها 11.0 مليار دينار لدى الحكومة الموقتة ، وبذلك زاد رصيد الدين العام ليصل الى 105.0 مليار دينار . وارتفع عجز الموازنة العامة ، لدى حكومة الوفاق ، نسبة الى الناتج المحلي الاجمالى الحقيقي لتصبح 28.16% في عام 2019 ، وكانت هذه النسبة في حدود 10% في عام 2018 باستبعاد حصيلة رسوم بيع النقد الاجنبي . وزاد اجمالى مصروفات النقد الاجنبي من 19.1 مليار دولار بنهاية عام 2018 الى 24.6 مليار دولار بنهاية عام 2019 بالرغم من الرسم المفروض على مبيعات النقد الاجنبي ، وقد تزامنت الزيادة في المصروفات بالنقد الاجنبي بانخفاض الايرادات النفطية من 24.5 مليار دولار في عام 2018 الى 22.5 مليار دولار في نهاية عام 2019 وانتهت السنة المالية بعجز في ميزان المدفوعات بحوالي 2.1 مليار دولار .

وبالرغم من ان سياسة فرض رسم على مبيعات النقد الأجنبي قد اتبعتها بعض الدول الاخرى ، بهدف  تقليص الفرق بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء وإخراج المضاربين في السوق السوداء وتحييدهم ، كخطوة على الطريق وصولا لسعر صرف موحد ، الا انه تم تسخير هذه السياسة في ليبيا لتمويل الموازنة العامة للدولة ، واعتمدت عليها حكومة الوفاق في تمويل العجز في ايراداتها ،  وسداد جزء بسيط من الدين العام ، وصارت الحكومة  تتحكم في امر تعديلها ، وبذلك فقد  المصرف المركزي زمام المبادرة لمعالجة سعر الصرف ، وصارت اجراءته رهينة بموافقة الحكومة ، بالمخالفة لافضل الممارسات . والنتيجة هي تورط الاقتصاد الوطني في هذا الرسم ، فلا تحققت أهداف هذه السياسة في معالجة موضوع سعر الصرف ، والدليل عودة السعر في السوق الموازية للارتفاع من جديد ، بل اصبح هناك  ثلاثة أسعار لصرف النقد الأجنبي : سعر الصرف الرسمي  وسعر الصرف المحمل بالرسم المفروض وسعر الصرف في السوق السوداء ، ولم يختفي عجز الموازنة العامة  ، والدليل إقرار عجز فى الموازنة العامة خلال عام 2019 ، وهو  العجز الاكبر مند أزمة الهلال النفطي عامي 2015- 2016 ، والتي سيقوم المصرف المركزي بتمويلها بمبلغ يتجاوز  20 مليار دينار . وبذلك اصبح الاقتصاد الوطني يعاني من ما يعرف بالفجوتين ( عجز الميزانية العامة وعجز ميزان المدفوعات ) وعاد شبح التضخم يخيم على الاقتصاد من جديد  ، و صار الرجوع على الاحتياطيات امراً حتميا نتيجة لتوقف تصدير النفط وانحسار ايراداته . ولعل من  اخطر تبعات فرض الرسم ما احدثه من تشوه جديد في الاقتصاد وهو تطبيق سعر صرف مضاف اليه رسم على معاملات الافراد والقطاع الخاص ( الاعتمادات المستندية ، والحوالات المباشرة ، وما يعرف بمخصصات ارباب الاسر )  وتطبيق سعر الصرف الرسمي على العمليات الخارجية للحكومة ، وما صاحبه من استثناءات ، وشبهة الفساد ، و صعوبات في التمييز بين ماهو خاص وما هو عام . ويشكل هذا الاجراء ، في ذات الوقت ، قيدا على عمليات الحساب الجاري ، بالمخالفة لاتفاقية صندوق النقد الدولي . وقد ادًى  توقف استخراج النفط وتدهور  صادراته وأسعاره  وتبعات جائحة كورونا المثمتلة في  اجراءات الإغلاق التي طالت كافة أوجه النشاط الاقتصادي  ،  وتوقف منظومة الاستيراد خلال الاشهر الاولى من عام 2020 ، إلى تراجع معدل نمو القطاع الاقتصادي غير النفطي وتدني مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي ، مما سينعكس سلبا على معدل النمو الاقتصادي خلال العام 2020 و يدفع الاقتصاد الليبي نحو وضع الركود التضخمي . وبالرغم من المشاكل التي ترتبت على فرض رسم على مبيعات النقد الاجنبي ،  فقد تعالت الأصوات التي تنادي  بزيادة الرسم على مبيعات النقد الأجنبي مرة اخري اعتقادا منهم بان ذلك سيحد من الطلب على النقد الأجنبي او يعالج العجز في ميزان المدفوعات في اقتصاد غير انتاجي و مكشوف على العالم الخارجي . وكان الاجدى العمل على استئناف تصدير النفط و تصحيح  سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي  ، ومعالجة دعم المحروقات وترشيد الانفاق العام واصلاح المالية العامة للدولة  بهدف معالجة العجز في ميزان المدفوعات ، وفي ذات الوقت تنمية ايرادات الخزانة العامة ومعالجة عجز الميزانية العامة . وبذلك تعتبر كل الإجراءات التي اتخذت خلال عامي 2018 و 2019 قد فقدت جدواها ، ولم يعد الرسم المفروض على بيع النقد الاجنبي يحقق الأهداف المرجوة منه، بل انها زادات الامور  الاقتصادية تعقيدا  ، وأصبح الاقتصاد الليبي في حاجة لبرنامج انقاد اقتصادي عوضًا عن مجرد برنامج للإصلاح الاقتصادي وذلك للتخفيف من حدة الركود التضخمي المرتقب و لتفادي أمران  : الاول ؛ استنزاف احتياطيات الدولة من النقد الاجنبي لدى المصرف المركزي  ، والثاني ؛ توقف الاستدامة المالية للدولة  . ويمكن تلخيص هذا البرنامج الذي ندعو له بصورة عاجلة ، في الاتي :

–   توحيد مصرف ليبيا المركزي وتكليف مجلس ادارة     جديد للمصرف ليعود سلطة نقدية واحدة تتولى  مسوءلية  تعديل  سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي بدمج الرسم المفروض على مبيعات النقد الاجنبي في السعر الرسمي ، بعد مراجعته ، على غرار المعالجة التي تمت بالنسبة لضريبة النهر الصناعي التي كانت مفروضة على مبيعات النقد الاجنبي عام 2001 ،  لكي يكون سعرا توازنيا موحدا لكافة الاغراض ولكافة القطاعات العامة والخاصة ، والتحكم في اصدار النقد الليبي وادارة السيولة في الاقتصاد الوطني .

⁃ استئناف استخراج وتصدير النفط الخام والغاز والعمل على رفع معدلاته الى اقصى حد ممكن .

⁃ توحيد الباب الاول من الموازنة العامة للدولة ، وصولا لتوحيد كامل بنود الموازنة ، وفقا لمنظومة تضم كافة من يتقاضون مرتباتهم من الخزانة العامة في مختلف المناطق وباستخدام الرقم الوطني .

⁃ وضع واقرار نظام للاستفادة العادلة من الموارد السيادية العامة في ليبيا ، من خلال اقرار وتطبيق نظام للحكم المحلي يقسم الدولة الى عدد من المحافظات والبلديات ، بحيت يتخلص من مساوى النظام المركزي في إدارة وتقديم الخدمات ، ويجيز استغلال  الموارد المحلية ( رسوم وعمولات ) توريد وصرف لصالح المحليات ، ويحقق التنمية المكانية المتوازنة باستعمال فايض الايرادات النفطية وعوائد توظيفها .

⁃ معالجة دعم المحروقات ، بحيت يلغى الدعم على مراحل ضمن اطار زمني محدد ، وتعويض المستهلك الليبي نقدا ( دعم المستهلك بدل دعم السلعة ) . وتشمل المعالجة دعم المحروقات للشركة العامة للكهرباء .

⁃ البدء في تنفيد صرف علاوة الابناء والزوجة المقررة بموجب القانون رقم 6 لسنة 2013 بشان علاوة العائلة والقانون رقم 27 لسنة 2013 بشان منحة الزوجة والاولاد ، الصادرة  عن الموتمر الوطني العام في السابق ، على مراحل ومن خلال اطار زمني محدد ،  برصد مخصص سنوي ضمن الموازنة العامة للدولة والى حين سداد كامل المبلغ المستحق .

⁃ حصر و تقنين الدين العام المحلى ، في شكل سندات خزانة بفترات استحقاق محددة ، وبيعها للقطاع المصرفي ، واستحداث ادوات تمويل جديدة مثل الصكوك الاسلامية .

⁃ اعادة الثقة للقطاع المصرفي وتفعيل دوره في النشاط الاقتصادي ، وتصحيح اوضاع مؤسساته وحمايتها وفقا لاحكام قانون المصارف .

⁃ منح القطاع الخاص الصناعي تسهيلات في شكل اعفاء موءقت من الرسوم الجمركية على المواد الخام المستوردة وتاجيل اقساط الديون والالتزامات  المستحقة عليه لصالح القطاع المصرفي ان وجدت .

⁃ تطوير شبكة للحماية الاجتماعية social safety net  للحد من الفقر وحماية الفئات الهشة والعاطلين عن العمل ممن يبحتون عن العمل .       هذا في المدى القصير اما على المدى المتوسط والطويل فان الاقتصاد الليبي في حاجة لاعادة هيكلة بغية تنويع مصادر الدخل والتخلص من هيمنة النفط على الاقتصاد .

———

 

شاهد أيضاً

خوري تؤكد إمكانية البناء على اتفاق المصرف المركزي لحل مشكلات أخرى

أكدت القائمة بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم لدى ليبيا ستيفاني خوري إنه يمكن لليبيين …