(تمرّ هذه الأيام عشر سنوات على رحيله ..وهذه المقالة كتبت آنذاك ..وحبّا فيه أنشرها لإحياء ذكراه ..رحمه الله ..)
كتب /محمد الهادي الجزيري
معقولة يا راجل؟!*
معقولة يا بلقاسم المزداوي؟!
على إيقاع عرس الجيران والجلبة الصاعدة إلى دماغي عبر مسام النافذة الموصدة …أكتب لك ، أتراني أكتب أم أبكي من ذؤابة القلم؟
أبكيك أخي بلقاسم ، أبكي الطيبة والرجولة والتواضع العالي، أبكي أبا العيال المجاهد المقهقه في وجه الوقت المتجهّم الفظّ، أبكي الرجل الأعزل إلاّ من هيامه بوطنه وأمّته، الرجل الصادح بالرأي الجارح والمربك والمسبّب ” للمشاكل “، في زمن المتحذلقين والمتموقعين المختصين في أكل الكتف، أبكي الصديق المشرع كالبحر رغم قلّة الزاد وقصر اليد، أبكيك يا بلقاسم المزداوي وألعن الوجع الذي تشبّث بقدمي منذ ركلت المقعد … لحظة احتضنني محمد الربيعي وأفشى الفاجعة فيّ، يا هول ما أخبرني به صوته المذبوح ، أجبته فورا : تقصد والد بلقاسم، وكنت أعلم أنّك يتيم مثلي، كنت أعلم ذاك ولكنّ الصوت خرج من روحي ولم يمرّ على عقلي ، ظللت للحظات قصيرة فارضا للحقيقة التي أريدها ورافضا للمصيبة التي صعقتني ، لم أجد كائنا واحدا حولي يكذّب موتك، لا شمس الدين العوني الذي تحوّل بغتة إلى كتلة من الوجوم ، ولا مراد العمدوني الذي خطا خطوات إلى الوراء وكأنّه يريد العودة إلى المقهى ويحذف من رأسه ما رأى وما سمع و ما حدث في ساحة المبيت بسيدي بوزيد ، لم أجد غير المقعد الغبيّ المحايد البارد فركلته وقذفته ببياضه المخيف إلى أبعد نقطة ممكنة من ظلام الساحة المسيّجة بزهور بلهاء تنام وتحلم بشمس جديدة يأتي بها يوم جديد …، يا ويلنا من خبرك الجديد الجديد ، خالد درويش ينشج في غرفته مثل طفل ضيّع أمّه في الأسواق، ويحرّض عقلي على الاستسلام ، ينوح في حضني : إبك يا محمد إنّه صديقك …، نعم لكم كنت صديقا لي وستظلّ صديقي، لا معنى لموتك خارج نفوس من يحبّونك ، ولا جدوى من مغالبة الدمع ، الغرفة بمن فيها من أصحابك تغصّ بالشهقات والنافذة الصغيرة المفتوحة على الليل الأعمى تنقل توسّلاتنا إلى الله كي يتغمّدك بحبّه ورحمته فقد كنت طفلا كبيرا وحضنا شاسعا للأصدقاء والغرباء….
بلقاسم يا أخي، ها إنّني أتبع دمعتي المرّة إلى عتبة سنة 2003، قبل تهافت المغول والأشقاء الخونة على وردتنا بغداد، وأراني مجنونا تونسيا يترك أمّه وزوجته وصغاره في كفّ الضياع ويتّخذ من طرابلس محطّة أولى في هبوبه إلى نجدة بغداد، كم كان الأمر مضحكا ، أيها الضاحك من كلّ همّ وفي كلّ همّ، أردتُ أن أكون درعا بشريّا لأمنع أمريكا من قطف بغداد، وكان لابدّ لي من سند لمواصلة العناد ، فلذت بك وبجميل حمادة الجريح الآخر، ولم تبخلا عليّ بشيء وخاصة الكذب، كذبتما عليّ يا بلقاسم وأوهمتماني بأنّكما ترتّبان لي أمر السفر إلى سوريا لأتسلّل منها إلى العراق، وأخذتني أيها الكاذب إلى بيتك وأطعمتني من قليلك وهو كثير على غريب مثلي محبط وحزين، واختلست منّي اليوم تلو الآخر، وضحكت داخل غيمتي قصدا لتربك حلكتها وتفتح فيها كوى للأمل والتعقّل، كوى رأيت من خلالها أسرتي الجميلة المحتاجة لي، ولكنّي أعند من ديك مذبوح، كلّما ازداد الألم ازددت إصرارا على الوقوف في صفّ بغداد المخذولة، أمّا أنت فكنت وما زلت الأقدر على الكذب، ككذبة موتك الأخيرة، والله إنّها لسخيفة ومفضوحة ، كما أنّها لا تضحك يا بلقاسم، كذبت عليّ إذن إبّان جنوني، وختمت حيلك الكثيرة بحيلة نبيلة ، لا يقدم عليها إلاّ ذو معدن نبيل، اصطحبتني بمعيّة وجهك الآخر، حمادة الجميل طبعا، إلى أمسية شعريّة ورتّبت الأمر كي أشارك فيها وكان لك ما تريد، ثمّ تجوّلنا ثلاثتنا في أحضان طرابلس إلى أن التفتّ إليّ في ساحة مزدحمة بسيّارات الأجرة وقلت لي وعيناك محدّقتان في عينيّ : ” إن كنت رجلا حقّا دافع عن حقّ أسرتك في الحياة ” ودفعتني إلى سيّارة الأجرة بعد أن دسست في جيبي أوراق الحياة، وقبل أن ترى دمعي في جوف السيارة…، بكيت نعم ، بكيت من عجزي ومن كرمك يا أغنى الفقراء ، بكيت من كذبك ومن حنيني إلى أهلي ومن خوفي على أهلي الآخرين المحاصرين في العراق ، بكيت وها إنّي أنشج الليلة في بيتي الذي منعت عنه الخراب يوم كذبت عليّ …، هل متّ حقّا بلقاسم ، ” معقولة يا راجل؟!* ”
سنّك اليوم لا تسمح بالكذب فاعتذر عن كذبتك الأخيرة……………
( أخي كيف حالك هذا المساءْ؟
أخي قيل إنّك …… لا لا ولا
أخي .. هل أصدّق هذا البكاءْ؟
طرابلس تبكيك من أعين الشعراء
وتونس تسأل غيمة وجهيَ … ماذا جرى؟
أثمّة بغداد أخرى هوت
كي أرى كلّ هذا الأسى في محيّاك
يا طفليَ المصطفى؟*)
*جملة ، لطالما ردّدها بلقاسم في زمن العجب العجاب
*زفرة قد تنتهي قصيدة وداع لصديق ضاع