منصة الصباح

أنا لا أحب وطني

بقلم: عبد الرحمن جماعة

 

أنا شخصياً لا أحب وطني

لا أقول ذلك كي تُكمل قراءة المقالة، فوالذي خلقك لا أجد في قلبي أي مشاعر تربطني بأي شبر في أي جزء من هذا الكون!.

الوطن هو حيث أنت.

والقيمة الحقيقية هي أن تحترم ذاتك، وأحترامك لذاتك يوجب عليك أن تحترم المكان الذي استقبل هذه الذات.

استظل أحدهم بظل شجرة، واستمتع بوارف ظلها، وأكل من ثمارها، وقبل أن يغادرها.. خرأ تحتها!

وفي المقابل:

شرب أحدهم من بئر، وقبل أن يغادره، عمل على إصلاحه، لينتفع غيره به كما انتفع هو.

إذا كنت في الصين، فالصين هي وطنك، وإذا كنت في الموزمبيق فالموزمبيق هي وطنك، وإذا كنت في المريخ، فالمريخ هو وطنك.

إن قيمة الدفاع عن الوطن لا علاقة لها بالأرض ولا بالمكان، فالبدو الرُّحَّل يقاتلون العدو الصائل مع أنهم لا يعرفون الارتباط بالأرض.

إن السياسيين وحدهم هم من يتباكون على الوطن، ويتغزلون فيه، ويزعمون محبته، ومع ذلك فهم شر الناس وأفسد الخلق وأسوأ من يمشي على قدمين، وما ادعاء حبهم للوطن إلا لإغراء العامة وإغوائهم، وسوقهم كالبهائم ليستمطروا منهم شآبيب التأييد، وخالص الثناء، والأهم من كل ذلك ورقة يضعونها في صناديق الاقتراع.

إن الحب هو عاطفة إنسانية، لذلك لا يُمكنني أن أنكر على أي إنسان محبته للأرض، أو تعلقه بالتراب، أو حنينه إلى أي مكان، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون معياراً يقيم به المرء، أو تُقاس به درجة الوطنية، بل ينبغي أن يكون المقياس الحقيقي هو مدى إلتزامك بالقوانين، ومقدار احترامك لقرار الجماعة، وحجم ما تقدمه لغيرك من منفعة.

وجميع هذه المقاييس تنبع من ذات الإنسان، ولا تنبت من تحت قدميه!.

إن الشيء الذي لا يُمكن قياسه لا يصح الاحتجاج به، ولا يُمكن الاحتكام إليه، فحينما حاجج إبراهيمُ الخليل عليه السلام النمرودَ بقوله: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، استغل النمرود ذلك الفراغ في الحجة رغم صحتها؛ فأتى برجلين قتل أحدهما وأبقى الآخر.

وهنا تفطن إبراهيم للأمر، فأتى بحجة يسهل قياسها، ويُمكن معايرتها، وتصلح للاحتكام إليها، فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ).

لذلك فإن ما في القلب يبقى في القلب، والنوايا لا يعلم بها إلا خالقها!.

ولذلك أيضاً فإن محبتك لوطنك هي شأنك الخاص، الذي لا يُفيد من علمه، ولا يضر من جهله.

إن أسوأ ما في المشاعر هي أنها تُلهي عن العمل، وتمنع من العطاء، فيجد المرء الاكتفاء بما يجده في قلبه، عن ما ينبغي أن يقدمه بيده.

وإن أسوأ ما في المشاعر أنها لا تقدم ولا تؤخر، فإن كنت مريضاً فلن تنفعك مشاعر الناس، وإن كنت فقيراً فلن يُفيدك شيئاً مجرد تعاطف الناس، لكن الذي يُفيدك هو سعي الناس لعلاجك حين تكون مريضاً، وجُهدهم لإغنائك حين تكون فقيراً.

كذلك هو الوطن، لا يستفيد شيئاً من قصائد الشعراء، ودموع السياسيين، وهتافات القطيع!.

إن المشاعر الحقيقية هي المقرونة بالعمل، وإن العواطف الصادقة هي المرتبطة بالفعل، وما عدا ذلك فإنه لا يتجاوز عطف الدجاجة على كتاكيتها.

سألت أبي ذات يوم: أين ينبغي أن أقيم؟

قال: “وين ما اطَّيب العيش كوله”، وهي عبارة يُمكن ترجمتها إلى الفصحى: “كُلْ حَيْثُ تَطْهُو”!

لم أفهم تلك العبارة إلا حينما سمعت أحدهم يُحاول أن يُحرج الشيخ أحمد ديدات: يا شيخ هل ينبغي للمسلم أن يُدافع عن بلد كافر؟

فأجابه الشيخ:

البلد الذي يستحق أن تعيش فيه، يستحق أن تُدافع عنه!

أخي المواطن؛ دعك من كل هذا الهراء.

واسأل نفسك حين تقول: “أنا أحب وطني”:

هل سبق لك أن تلقيت رشوة؟

هل سرقت الكهرباء؟

هل تتجاوز الإشارة الحمراء؟

هل تركن سيارتك في غير الأماكن المخصصة لها؟

هل تُلقي بكوب القهوة من نافذة السيارة؟

أين تلقي قمامتك؟

هل تُمجد الرؤساء والسياسيين وأصحاب المناصب؟

وبناءً على إجاباتك يُمكنك أن تعرف مدى حبك لوطنك، ومدى علاقتك وارتباطك بالتراب الذي تمشي عليه؟

فالوطن ليس مجرد قطعة من الجغرافيا محددة بعدد الكيلومترات.. الوطن هو ذاتك، وبقدر احترامك لذاتك، وبقدر حبك لذاتك، وبقدر احتمالك للقيم والأخلاق والمبادئ التي تمثل هذه الذات، يُمكنك قياس حبك لوطنك!.

وما عدا ذلك فهو نوع من أنواع (الدفنقي)!.

أيه المواطن البسيط..

تذكر..

أنه عندما يتغزل السياسي بالوطن فإنه إنما يستغل مشاعرك، وعندما يتباكى على الوطن، فإنه إنما يستثمر عواطفك، فلا تكن كأمَة بشار بن بُرد، يُقنعك الهابط من القصائد، ويستدرجك اللين من القول، ويستميلك الرديء من الكلم، فإنَّ حقوقك أكبر وأعظم، ومكانتك أسمى وأجل، وقيمتك أثمن من كل السياسيين!.

لقد دأب الحكام ورجال السياسة على التلاعب بمشاعر الناس وتوظيفها لصالحهم، وأكثر ما كانوا يعزفون عليه، الدين والأرض، وقد أجاد فرعون اللعب على هذين العنصرين ليستميل العامة، فقال عنه عز وجل: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26].

فالتغني بالوطن ليس دليلاً على حب الوطن، وحب الوطن ليس دليلاً على صلاح المواطن، وعدم حبه لا يعني العكس، فالأوطان لا تُبنى بالمادحين لأمجادها، أو بالباكين على أطلالها، أو بالمتغزلين في مفاتنها، وإنما تُبنى بسواعد أجيالها.

نعم لا أنكر أن للغناء دوراً كبيراً في التحفيز ورفع الهمم وإثارة الحماس، لكن الغناء ليس وظيفة من هم في السلطة، فأصحاب السلطة وظيفتهم البناء لا الغناء، فإذا رأيتم السياسي يتغني بالوطن أو يبكيه.. فأبشروا بالفساد!

تماماً كما إذا رأيتم طبيباً يُشرف على بناء بُرجٍ، أو مهندساً يُجري عملية جراحية لمريض، أو (سنفاز) يُفتي في الدين!

وختاماً.. فإن الداء كل الداء في أن يتحول الوطن إلى مجرد شعارات فارغة، وهتافات حماسية تُلهب المشاعر لبرهة من الزمن ثم تنطفئ كما تنطفئ الشعلة في القش.

وحين يصبح الوطن كذلك تكثر فيكم المزايدات، ويقل فيكم العمل، وتذهب مروءتكم، وتعمل ألسنتكم، وتخمل أيديكم.

لذلك فأنا أعلن بكل صراحة: أنا لا أحب وطني!.

 

 

 

شاهد أيضاً

فتنة الورّاق في طبعة جديدة

صدر هذا الأسبوع في طبعة جديدة «فتنة الورّاق… من تراث نقد الفكر الديني في القرن …