بقلم /سليم يونس
كشف فيروس كورونا نفاق بعض الدول وأنانيتها، كما ظهَّر كم كانت بائسة محاولات البعض الرخيصة استحضار ثقافة التشفي، والنظر للآخر بتعالي، ظنا منهم أن المرض يخص منطقة معينة وشعوبا بعينها، وهم في منأى عنه… بل وتوجيه الاتهام بأن الصين هي وراء هذه الوباء قبل أن يتحول الفيروس إلى جائحة طالت كل دول العالم.
غير أن فيروس كورونا المستجد كذب هذا المنطق، أي حصرية هذا الوباء، بأن غزى تلك الدول، وكشف هشاشة سياساتها وعجزها الداخلي، أمام هذا الخطر الذي يهدد كل العالم، ولذلك عرى هذا الوباء مقولات البعض حول التعاون والوحدة حتى في البيت الواحد، والإنسانية بمعناها الواسع، لتكشف مأساة إيطاليا كم هو الفرق كبير بين الأقوال وقت السعة، والأفعال ساعة الخطر الجدي، لتتراجع مقولات الأيديولوجيا والتعاون والوحدة الأوروبية، عبر خلق تناقض خارجي وهمي، لصالح التشرنق على الذات، لتكشف عمليا تراجع مفاهيم الوحدة، لصالح قيم وثقافة الخلاص الفردي.
ولعل أكثر الدول التي فاجأتها إدارة ظهر شركائها في الاتحاد الأوروبي سواء على صعيد الدولة أو الشعب، هي” إيطاليا”، الذي جعل هذا السلوك الأوروبي السلبي وربما العدائي من البعض، رئيس الوزراء الإيطالي، جوسيبي كونتي، يحذر من سقوط الاتحاد الأوروبي ككيان جامع، خلال مقابلة صحفية مع موقع “إل سول 24” الإيطالي، وأن التكتل الأوروبي بكامله كما قال: “قد يفقد في نظر مواطنينا، سبب وجوده”، فيما قال وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو إن بلاده كانت “تنتظر ولاء من شركائها الأوروبيين”، لكن دول الاتحاد الأوروبي كشفت كذب كل شعاراته حول الوحدة الأوروبية والبيت الأوربي الواحد، بل وأدارت الظهر عن عمد حتى للجانب الإنساني الذي يشكل قيمة عامة متجاوزة للجغرافيا الطبيعية والسياسية.
وصدمة الإيطاليين والشك في صدقية دول الاتحاد، هي ترجمة للوقائع الملموسة التي اتخذتها بعض دول الاتحاد تجاه إيطاليا المنكوبة بالفيروس، ففي الوقت الذي أقامت فيه روسيا الاتحادية المعاقبة من الاتحاد الأوروبي جسرا جويا مع إيطاليا لتقديم الدعم الطبي والاختصاصين لمواجهة الوباء، وكذلك فعلت الصين وكوبا، أغلقت النمسا بين ليلة وضحاها الحدود معها. فيما أقدمت جمهورية التشيك على مصادرة شحنة من المساعدات الطبية والأقنعة الواقية، كانت قادمة من الصين في طريقها إلى إيطاليا، وبدورها قررت ألمانيا حظر تصدير مستلزمات الوقاية الطبية للخارج. جملة هذه المواقف والممارسات والقرارات التي اتخذتها بعض الدول الأوروبية، والشعور الإيطالي بالخذلان جراء مواقف الاتحاد الأوروبي من دعمه في محنته، ألقت بظلال من الشك لدى الإيطاليين حول جدوى استمرار هذا التكتل، الذي فشل في إعلاء قيم التعاون والوحدة في موضوع إنساني، تحملت صدمته الأولي إيطاليا.
في حين أن الاتحاد قام على أساس اعتماد مبدأ حرية الحركة للأفراد والبضائع بكافة جوانب تلك الوحدة السياسية والاقتصادية، بل حتى الاجتماعية والثقافية منها، وظل الاتحاد الأوروبي على مدار السنوات الماضية يعتبر مثالا يحتذي به للتضامن في شكل بنيان سياسي واقتصادي وعسكري واحد. لكن ما جرى خلال الأيام الماضية من ترك إيطاليا وحدها تواجه مصيرها منفردة، لم يكشف فقط عن أزمة جوهرية تمثلت في غياب التنسيق الأوروبي الواضح داخل كيان الاتحاد في التعامل مع القضايا ذات الاهتمام المشترك. وإنما في ظهور مواقف شبه معادية اتخذنها بعض الدول الأوروبية، من ذلك أن ألمانيا الاتحادية ودول شمال أوروبية أخرى رفضت مناشدة تسع دول، من بينها إيطاليا الأكثر تضرراً، من أجل الاقتراض الجماعي من خلال “سندات كورونا” للمساعدة في تخفيف الضربة الاقتصادية للوباء.
بل إن ألمانيا وفرنسا اقدمتا على حظر المبيعات الخارجية لأقنعة الوجه، وتحديدًا تجاه إيطاليا التي انتشر فيها الفيروس بشكل كبير، واتخذت نفس هذا الموقف أيضا مع كلًا من النمسا وسويسرا عبر إصدارها قرارا بإلغاء شحنات إرسال أقنعة الوجه إليهم. هذا السلوك يتنافى مع فكرة الاعتماد المتبادل التي هي أحد أركان العولمة الاقتصادية التي من المفترض أن الاتحاد الأوروبي قائم على أساس ذلك المبدأ، عبر ترابط شبكات إنتاج دِوله معا، مما يجعل هناك صعوبة في فكرة التخصص والانعزالية في إنتاج سلعة معينة، وهو ما جعل الدول أكثر اعتمادًا على بعضها البعض، لأنه لا يمكن لأي دولة أن تسيطر على جميع السلع والمكونات التي تحتاجها، إلا أن المنحى الذي اتخذته الدول الأوروبية في التعامل مع إيطاليا وصربيا يتناقض مع تلك الفكرة.
ويمكن القول إن فيروس كورونا جاء ليكشف هشاشة هذا الكيان من الناحية السياسية والاقتصادية، بأن جعلت دول الاتحاد مبدأ البحث عن المصلحة الوطنية لكل دولة داخل الاتحاد، المبدأ السائد وأن الشعارات السياسية والمبادئ الاقتصادية تصلح في أوقات السلام لا أوقات الأزمات، وكشف التعامل الأوروبي مع الأزمة أن إدارة الدول الأوروبية للأزمة جرت على أساس التجزئة والنأي بالنفس وعدم العمل ككيان واحد. وعلى خلفية “تباطؤ” دول الاتحاد في دعم دولة مثل إيطاليا ظهرت أربعة مشاهد ذات دلالات عميقة؛ الأول كان مشهد المدرعات والعربات الروسية التي تجوب شوارع إيطاليا حاملة على متنها مساعدات وأطقم طبية، من دولة تفرض عليها إيطاليا باعتبارها جزءا من الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية وسياسية. والثاني هو مشهد الأطباء الكوبيين الذين وصلوا إلى إيطاليا أيضاً والترحيب الهائل الذي قوبل به أطباء الدولة التي تفرض أمريكا عليها حظراً منذ عقود، فيما تجلى مشهد تقبيل الرئيس الصربي لعلم الصين اعترافاً منه بدعمها ومساندتها لبلاده، الذي هاجم بشده تخلي الاتحاد الأوروبي عن بلاده في هذه الظروف ورفضهم بيع بلاده أدوات وتجهيزات طبيه لمواجهة فيروس كورونا.
وتمثل المشهد الرابع في إنزال مواطن إيطالي لعلم الاتحاد الأوروبي ورفع علم الصين بدلاً منه.
إن تعامل الاتحاد الأوروبي مع الدول التي اجتاحها وباء كورونا، كشف أنانية تلك الدول، هذا من جانب ومن جانب آخر أظهر أن الاتحاد كمؤسسات عجز عن ترجمة مبادئه التي طالما استخدمها كقوة ناعمة، في محاربة الدول الأخرى التي لا تتوافق مع سياساته، في دعم الدول الأعضاء في الاتحاد، وإنما لعب دورا سلبيا فيما هي تواجه شراسة الوباء، بأن غابت أوروبا وحضرت دول أخري، لتقدم الدعم والمساندة لإيطاليا في محنتها فيما حاصرتها بعض دول الاتحاد الأوروبي.
ومع أنني أقدر أن حسابات تجاوز المحنة سيكون حاضرا في رسم المواقف والسياسات الإيطالية المقبلة فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، لكنه لن يصل إلى حد التخلي عن فكرة الاتحادـ، مع أن هذا التخلي عن دعم إيطاليا وجه ضربة قوية لأحد المبادئ التي قام عليها لا يمكن تجاهلها. هذه الضربة، لن تكون مفاعيلها على الوحدة الأوروبية آنية، ولكنها ستحفر لها مجرى في الوجدان والعقل السياسي الإيطالي، كون ما حدث في إيطاليا من خذلان أوروبي مشين، وصل حد مشاركة الوباء في حصار الشعب الإيطالي سيجل مما بعد محنة كورونا ليس كما قبلها على الأقل لدى الإيطاليين ودول أخرى خذلها الاتحاد.