كتبت :فتحية الجديدي
صدّر فيلسوف اليونان “هيرقليطس” جدلية الحب من خلال كتاباته المعروفة باسم (في الطبيعة)، التي جمعت شذراته في تاريخ التراجم القديم ووصلت إلى 126 شذرة صحيحة
وتكشف كتاباته عن طبيعة تفكيره ودور الحب والحرب فيها والتصاقهما في ذهنه , وفق قراءات الدارسين لهذه المدونات منها ترجمة سابقة له بعنوان (هيرقليطس فيلسوف التغير), ومحاولة الآخرين فهم مشكلة الاغتراب لديه وما تحمله التجربة من تأمل ولها تأثير على التفكير الفلسفي فيما بعد.
كان يكتب (هيرقليطس) بتعدد الأفكار في إشكالية واحدة، وكتب عنه من خلال دراسة الحب لديه باعتبارها المحور الأساسي في مرجعه الفكري ومنح الآخرين نفس الصفة.
صنفت كتاباته بالغموض وقال عنها سقراط أنها تحتاج إلى غواص ماهر، حيث اعتبر الفيلسوف اليوناني أن الفلسفة ليس لها موضوع محدد بل هي طريق من ثمة مهمة هي إيقاظ النفوس من خلال وضع التساؤلات مثل الحكماء الذين يفترض أن يسألوا دائما عن عدة أشياء ليصلون للحقيقة، بهدف الكشف عن المشكلات، ومن قوله : “الحكمة الوحيدة هي معرفة السبب الذي يحكم الكل” وأن الإنسان يحكمه كون واحد, ومن ثم لعالمه الخاص والبحث عن المساحة المشتركة للنفوس ومساحة الحب للتخلص من الكراهية وهي وظيفة الفلسفة في الدخول للنفس البشرية في حالة اليقظة والنوم – كما جاء في (الحب يرتدي حلة حربية).
العمق الكبير الذي أبلاه الكاتب الفيلسوف في محادثة العقل والعقل في آن واحد، والانسياق وراء المصلحة المشتركة وهي المحبة، كما شرّع الحرب مع العالم الخاص الذي بشكله النائم وهم يتنبئون بالاغتراب ولهم تأثير من خلال حركاتهم في النوم من خلال الوعي أن يسيطروا على المستيقظين .. ومن هنا اقترنت الفلسفة لديه في جدليتي (الحب والحرب) ,والبحث عن أرض الحب وعدم الرجوع إلى الوراء، أي أن الحرب الذي يقصدها ليست الحرب في ذاتها بل البحث عن الحب المختفي باعتباره أداة للتوحيد وهدفه في نفس الوقت وهي التي تفرز الناس وتوجد القانون.
ظل الفيلسوف يبحث عن هذه القيمة طيلة فترة اغترابه ورفضه أن يتولى منصب كبير الكهنة , مشبها النيام بالدهماء واعتبرهم متعصبين ومغيبي العقل وكان يمقت التعصب الذي صنفه بأنه الداء الأكبر.
فلسفة تأسيسية جميلة تقود القاري إلى الغوص فعلا وإعادة التفكير والتحليل والبحث أيضا، معاني تنويرية تدعو للحب، تلك القيمة التي نبحث عنها داخلنا دائما التي كتب عنها رجل فيلسوف حتى غاب عن الدنيا سنة 475 قبل الميلاد..
التفكير لديه بدأ في عتمة النوم ثم للنور عندما استغل لحظة الاستيقاظ، كما بحث في نفسه بنجاح وصنفها الباحثون بأنها ليست عبقرية بقدر ماهي فهم للتفكير وإدراك المفاهيم ويأتي الحدس متأخرا عنده مما جعله أقرب للواقع، حيث بدأ من الغموض إلى الوضوح وليس الاعتماد على الحواس في المجمل لكونها وسيلة للمعرفة لمن لهم نفوس مستيقظة.
فلسفة أخرى أعجبتني واحتفظت بها للمعرفة.. كما ساقنا الفيلسوف إلى شكل النيام في تلك الحقبة الغابرة والصراع الدائم نحو الفكرة الواحدة, ما جعل أغلبهم غير سريعين في نتائجهم ليس لكونهم بطيئين في التحليل بل لتأخر اقتناع باقي القوم، معتبرا العقل قانون الفكر كما أنه قانون العالم, وإن حقيقة المسائل أو المعيار أو القيمة أو العلة والسبب يقال هي (اللوجس) عند هيرقليطس الذي قاده لمعنى منفرد هو الحب، وفي أوراقه : –
(خلق الإنسان جميلا’) دخل الفيلسوف في قيمة أخرى وهي الجمال الأصيل لقيمة الخلق وإيمانه العميق بالإنسان الذي يملك الحكمة دون غرور وتكمن قيمته في إدراك حدوده وان عقله ليس كلي، كونه ليست لديه القدرة على الفهم الكامل.
(وخلق الإنسان مغتربا), حيث فصل الفيلسوف بين العدل والجور وأن الإنسان له طبيعة مزدوجة التي تكون فيها الحقيقة معلنة أو ملتوية العمق بقوله “إن الإنسان هو الذي يسقط مشاعره ورغباته وأهواءه وتفكيره بالواقع” ودخل هنا في جدلية أخرى وهي حالة الاغتراب بفقدان النفس والتنازل عنها، مع مبدأ الاختيار بين القبح والجمال.
(وخلق الإنسان منتشيا) هنا الفيلسوف شبه الانتشاء بالتنبؤ الذي لايوجد عند النيام أو الأطفال والصم وواهمي المسارح وصناع التماثيل الصماء التي لا يمكن أن تسمعهم أو تستجيب لمطالبهم، وهنا ظهر التنوير عنده والبحث عن الحرية الكاملة.
(وخلق الإنسان حكيما)” فيه يكون الإنسان قادرا على السعي وراء التكامل المعرفي وجعل الحكمة أسلوبه في الفكر ووضع الوجود الجزئي موضع التساؤل والشك.
(وخلق الإنسان عاقلا) بأن يتحول العقل إلى الملكة المشتركة بين الجميع التي ليست لها علاقة بالحواس الخاصة، ويظهر التأسيس للعقل من خلال القوة المشتركة ويصبح هو القانون.
(وخلق الإنسان مقاتلا) يقول فيها “على الإنسان أن يعرف أن الحرب تصبح الشريعة بين النزاع والضرورة، بأن نقاتل من أجل الحب، والحرب يقصد بها ليست القتال بل هي الحقيقة التي هي ملك للجميع.
(خلق الإنسان ناريا) حيث شبه الحاجة إلى التغير” بالنار” التي تتقد في الجسد وحالة النزاع بالذات البشرية التي تحكمها العدل في التفرقة بين الظلام والنور.
(خلق الإنسان عاشقا) في الأشياء التي تختلف يظهر أجمل التناغم والهدف الوصول إلى الآمان وتأسيس محبة التي تنشأ من صراع نحو شراكة.
الفيلسوف (هيرقليطس) الذي جاهد من أجل فلسفته للتخلص من كونه مجرد شيء إلي المعرفة ، محاولا لإيقاظ نفسه أيضا حتى وصل لعمق ذاته، وللعقل الكلى وخلص إلى أن الحقيقة هي وعي
ترجمة : مجاهد عبد المنعم مجاهد