منصة الصباح

عودة للمربع الأول

زايد..ناقص
بقلم /جمعة بوكليب

المرء أسير عاداته، وكلما امتد به العمر أكتسب العديد منها. بعضها مُضرّ، وبعضها الآخر يقع في منزلة بين المنزلتين، وأقلها صحي ومفيد. ومن عاداتي المكتسبة في المهجر واحدة التصقت بظروف معيّنة لا سيطرة لي عليها. كأن يكون هناك اضراب لسائقي القطارات، أو أن يقسو الطقس، ويصير الخروج من البيت مغامرة، وأضطر، في تلك الحالات، للتغيب عن العمل والبقاء في البيت لأيام قد تطول أو تقصر. حين يحدث ذلك، أسحب من بين رفوف مكتبتي المنزلية رواية دون كيخوته، وأستمتع بتزجية الفراغ بقراءتها، منشغلاً بها عما يحدث خارج جدران بيتي. وبتكرر الظروف وتزايد الحالات، وجدتني أسير تلك العادة، التي أصنّفها تحت خانة العادات المفيدة، والصحية، لما تقدّمه لي من متعة.
هذه الأيام، حين قررت الحكومة البريطانية وضع قيود على خروج كبار السن من بيوتهم، بسبب تفشي فيروس كورونا، حفاظاً على سلامتهم، امتثلت لقرارها شاكراً، وبدلاً من رفقة دون كيخوته، قررت اللجوء طوعاً إلى اختيار رفقة رواية الأخوة كارامازوف للروسي ديستوفسكي.
يبدو أن طول الرواية، المتكونة من أربعة أجزاء، كان عاملاً حاسماً وراء هذا التغير، نظراً لطول المدة التي فرضتها الحكومة بالبقاء في البيوت. ويبدو كذلك أنني لم أقرأ الرواية، منذ مدة طويلة، ورغبت في اعادة قراءتها، وأن أقضي بصحبة أجوائها وقتاً ممتعاً.
الروايتان تقفان على طرفي نقيض. فالأولى أقرب ما تكون إلى السوريالية، وهلوسة انسان مجنون، وباعثة على الضحك. في حين أن الثانية شديدة الواقعية، ومؤلمة، بأجواء مشحونة بعواطف الكره والحب، وهي في نظري تقترب، إلى حد ما، مما يحدث، حالياً، من صراعات على السلطة والثروة في ليبيا، وربما أتجرأ بالقول إنها تذكرني، كذلك، وبأختلاف، بالحرب التي يشتد أوارها ضد وباء فيروس كورونا.
هذة الحرب الأخيرة، في أنحاء العالم المختلفة، يدور رحاها على مستويين. فهي على السطح منها حرب ضد الطبيعة، ممثلة في فيروس( لا يقرا ولا يكتب) يهدد حيوات الملايين من البشر. وتحت ذلك السطح، مستوى آخر، بدأت تبرز من بين شقوقه ملامح حرب ايديولوجية عالمية أخرى، لا تختلف عن الحرب الباردة التي صبغت بألوانها، وصراعاتها، وحروبها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وتجعلني أخمّن بأن العالم قد بدأ يَعدُّ العدّة لخوض غمارها، والعودة بالبشرية إلى المربع الأول، مثله في ذلك مثل تلك العجوز المسماة حليمة التي لا تستطيع الفكاك من أسر عاداتها القديمة.
وكما في الحروب العالمية السابقة، حيث يدخل الحلفاء في مرحلة ما بعد الحرب في تنافس للفوز بامتيازات وأفضلية، بدأت تظهر تقارير، في وسائل أعلامية بريطانية، تنشر تصريحات لمسؤولين غربيين يتعرضون فيها بالنقد إلى الصين، متهمينها بمحاولة السعي لتحويل نجاح سياستها في القضاء على الفيروس في أقليم اوهان إلى تأكيد أفضلية وجود حكم استبدادي منظم على حكم ديمقراطي غير منظم، هذا أولاً. أما ثانياً، ما قامت به الحكومة الصينية من تقديم للمعونات والأطقم الطبية إلى دول أوروبية مثل ايطاليا، لمساعدتها بالدواء وبالخبرة في القضاء على الوباء، وفي وقت أعطت فيه دول أوروبا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لايطاليا بظهرها، ومقفلة حدودها، حماية لنفسها من الوباء.
الفوز في المعركة ضد الوباء مهم. لكن بالنسبة للبعض الآخر فإن الفوز على المستوى الجيوسياسي والنقاش الأخلاقي أكثر أهمية. بل ان آخرين أطلقوا عليها الحرب العالمية الثالثة.
حين تقرر دول خوض حرب لابد وأن يكون حاضراً في أذهان الذين سيحملون السلاح السؤال عن طبيعة المجتمع الذي يريدون بعد انتهائها.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …