بقلم: عبد الرحمن جماعة
كدت أحس بزفراته الحارقة تكاد تحرق كل شيء كما يفعل بائعوا الفول المطبوخ تحت كوبري باب تاجورا، لكنه لم يكن هناك، بل كان تحديداً عند إلتقاء شارعي هارون الرشيد وأبوالعلاء المعري، يجلس في ظل جامع بورقيبة.
في هذه النقطة تحديداَ كان الضجيج هو سيد المكان، أصحاب سيارات النقل: “الزاوية نفرين”، “مصراتة نفر” “جربة نفرين”..الخ.
وبائعوا الملابس: “أي قطعة بعشرة دينار”، “فرصة يا بو العيلة”..الخ
خصام بين صاحب تاكسي ومجموعة من الركاب، أحدهم يُقسم: “عليّ اليمين ماو راكبها”، عرفتُ بفطرتي السليمة أنه يقصد السيارة، صوت المؤذن يقطع كل هذا الضجيج لأُسرِّع خطواتي رغم أنني أعرف أن بيني وبين إقامة الصلاة عشرين دقيقة.
في ركن الجامع كان يجلس القرفصاء وكأنه جثة لأحد أفراد قبيلة (نسامونيون) الليبية، أو كطفل يجلس على عتبة البيت ينتظر أباه الذي ابتلعته الحرب.
أبطأت في مشيتي لأسترق ولو جملة واحدة، كان يتكلم ببطء وبحرقة كشيخ كبير في سكرات الموت يلفظ وصيته الأخيرة، ظننت لوهلة أن الموت قد انتشل أحد أبنائه، لكن الجملة التي التقطتها أُذني غيرت ظني، كان يحدث رفيقه وهو لا يلتفت إليه، بل كان يحدِّق في الخواء، كنظرات طفل وُلد للتو، أو كنظرات (المعلم أوشو)، أو كشخص أصيب بالعمى فتيبست عيناه على آخر مشهدٍ رآه!.
قال وهو يُحدِّث رفيقه: “وحق النبي يا مصباح لَطتْ شالها خير من علم ليبيا”!
عند هذه الكلمة تحديداً توقف كل شيء، المارة، الباعة، محركات السيارات، العصافير في الجو، السحب في السماء، وحتى المؤذن شعرت أنه يمدُّ كلمة (الله) إلى ما نهاية!
أما أنا فقد تيبست في مكاني، بعد أن ارتطمتُ بهذه الكلمة، لأنني لم أرَ في حياتي تشبيهاً أبلغ من هذا، ولم أرَ في حياتي شخصاً يعظم بلاده أكثر من هذا التعظيم، أتعرفون لماذا؟
لأن المتكلم إذا إراد أن يُعظم شيئاً فإنه يشبهه بأعظم شيء في نفسه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المشبه به عادة ما يكون حقيقة، أما وصول المشبه إلى مرتبة المشبه به فغالباً ما يكون مجازاً.
بصراحة لقد أحسست بجمال العَلَم وهو يرفرف في سماء بلادي، ولأول مرة أعرف أن العَلم هو الوشاح الذي يلف جيد بلادي.
العاشق لا يُلام حتى وإن اشتط في القول، ألم يقل كثير عزة أقبح من ذلك:
رُهبانُ مديَنَ والذينَ عهدتُهُمْ يبكونَ مِنْ حذرِ العذابِ قعودا
لو يسمعونَ كما سمعتُ كلامَها خَرُّوا لِعَزَّة َ رُكَّعاً وسُجودا
إن حالة العشق هي أبعد نقطة عن العقل، وأقرب نقطة من الجنون، وفي تلك النقطة تحديداً ذُهل هذا الرجل عن كل شيء إلا عن إثنين: (المشبه، والمشبه به)، معشوقته وبلاده، وبعبارة أخرى: (معشوقته ومعشوقته)، ونتيجة لشدة الحالة فلم يعد يرى سوى رمزيهما؛ الوشاح والعلم!
الوشاح هو رمز لموطن قلبه، والعَلم هو رمز لما تبقى من جسده وعقله
الوشاح هو أكثر شيء يتحرك عندما تمشي معشوقته، والعَلَم هو أكثر شيء يرتفع عندما تنهض بلده.
لأول مرة أشعر بأنني صغير أمام شخص، شعرت بأن حبي للوطن مجرد كذبة أمام هذا الرجل.
كنت أسخر دائماً من عبارة: “رجل بحجم وطن” لكنني توقفت عن تلك السخرية لأنني وجدته.
فهل هناك رجل يعيش حالة فقدان لكل شيء.. ولا يفقد وطنه؟
وهل هناك رجل يبحث عن شيء عظيم ليشبه به محبوبته فلا يجد أعظم من بلده؟
الحب هو أسمى ما في الوجود، والعشق هو أعلى درجات الحب، وهذا الرجل يعيش في أعلى الأعالي، ومع ذلك لم يتعالَ ولم يعلُ عن علم بلاده.
بدأ الكون بالعودة إلى الحياة، وضعت رجلي اليمنى التي كنتُ قد رفعتها على الأرض، سائق التاكسي يقول بأعلى صوتٍ: “غازي”، تذكرت أنه قال: “بنـ” قبل أن تتوقف الحياة.
عاد المؤذن ليقول كلمة: “أكبر” بعد طول مدٍّ للفظ الجلالة.
خفق العصفور بجناحيه كتعبير عن إعجابه بالحدث.
عادت محركات السيارات للدوران مجدداً.
استطاع أحد الباعة أن يُقنع زبون بشراء قميص صُنع في الصين.
رجل المرور يصفر إيذاناً منه للسيارات بالمرور بعد أن أوقفها لبرهة.
وعدت أنا إلى المسجد أبحث عن مكانٍ آمن لأضع فيه حذائي!.