نافذة
بقلم /محمد الهادي الجزيري
بعد أن يشاكس ويدين الظلمات وملكوتها الشاسع ..وبعد أن يعلن أنّه صحبة الطفولات والنور والحب من ألف عام على هذه الغارقة في الدخان..على هذه البسيطة من دون بيت ، وبعد أن يشتكي من ضجيج المذياع وهلوسته المقرفة ..وتنصيبه كلّ يوم لصنم جديد وترديده بأننا «سنرجع يوما» .. وبعد ما يقارب السبع وثلاثين صفحة من الشعر الحارق العذب الصافي ..يصل بنا صابر العبسي في مجموعته الثانية « أجمل ما فيك لا يقبل الترجمة» إلى لبّ الموضوع ..ألا وهو اعتكاف الشاعر بعيدا عن العالم واعتناقه حبا وغزلا في فلك عزلته التي افتكّها من الجميع ..، يصل بنا في قصيدة « في مديح العزلة » إلى خيار المبدع الواعي ..الذي ينتقي عزلته ويختارها زوجة ورفيقة وحليفة دون سواها، وأعتقد أنّه أصاب كبد الحقيقة ..فلا شيء باق في جماله وسموّه مثل العزلة ..فلا كتابة ولا نبوغ ولا إبداع لشاعر ما لم يختر العزلة ..وهذا ما اختاره الفتى في الأربعين وما أدراك ما أربعين الشاعر..:
« زوجتي لم تكنْ
من نساء الأساطير،
من جنّيات الفراديس،
أو من قطا الذاكرةْ
زوجتي أبدا،
زوجتي عزلتي الآسرةْ
لم تكن من مها القيروانْ
ولا آلهات العلى
زوجتي وحدها
دون عائلة،
دون مهر،
ولا خاتم،
هذه الأبديّة جنّيتي الساحرةْ »
ويمضي أكثر ، ففي قصيدة مهداة إلى رفيقه الشاعر محمد العربي تحمل عنوان « مجبرا كلّ شيء تركت » … وفي قصيدة الشاعر الكبير منصف الوهايبي وقصائد كثيرة أخرى تضجّ داخل المجموعة المحتشدة فقد مسحت بياض 247 صفحة .، يمضي حثيثا إلى التفاصيل بشكل مدهش ..فيؤكّد لي وللمتابعين له أنّه شاعر التفاصيل بامتياز .. يفعل ما يريد بالتفاصيل ..يجعل منها كونا كاملا .. ولقد شدّتني شعريّته ونبوغه في هذا المقطع :
« .. حدّق مليّا بمقلة صقر حواليك ..أن لا تكون تركت وراءك .. سدّادة لزجاجة كولونيا .. ناب مشط تكسّر..عود ثقاب .. سيور حذاء.. قشعريرة سقطت من يديك .. وظلّت تدندن عبر شفاهك..في مقبض الباب.. حدّق بمقلة صقر حواليك.. في السقف ..في الرفّ.. في القاع ..في كلّ ركن..ولا تنس شيئا.. ولو شفرة.. جوربا .. إبرة.. زهرة ذبلت في الوسادة .. أو ريشة سقطت من ضفيرة طالبة ما ..» ..