ترجمة : عمر أبوالقاسم الككلي
ثمة ثلاث مراحل في عالم ما بعد حياة ثمرة الموز.
لعل ثمارالموز، وهي تنمو متدلية معا في الشمس الدافئة، تنسج أساطير البعث، مثلما تنسج العناكب الاستوائية الضخمة شباكها في العراجين الثقيلة. ربما كان هناك، من بين الموز، دانتي ينسج قصصه الدائرة حول لغز الخلود. وإنني لأتساءل ما إذا كان أكلها هو جنتها النهائية أو جحيمها، تَحقق الحب الخالد في اتصالها بإلهها، أم عذاب من خلال تحلل بطيء بواسطة الحمض.
الطريقة الواضحة لتمييز هذه المراحل عن بعضها تتمثل في ملاحظة الألوان التي تعرضها: الأخضر، الأصفر، البني. لبكاسو مرحلة زرقاء، لفان غوخ مرحلة بنية مخضرة ثم صفراء، للموز مراحل: خضراء، صفراء، وبنية. هذا، في واقع الأمر، يثير لديّ َمشكلة. لأنني عندما كنت صبيا، حلمت، أول الأمر، بموز رمادي.
حلمت بموز رمادي لأنني، بالطبع، لم أكن قد رأيت أية ثمرة موز حقيقية. فنادرا ما يحدث لنا ذلك، في رومانيا. فالموز يمر بمتاجرنا و، أحيانا، أسواقنا المفتوحة، في أيام عيد الميلاد، مرورا خاطفا. مع ذلك لدينا جهاز تلفزيون ملون، مهيب، ولكنه نسخة بائسة مصنعة محليا بترخيص من أحد مصانع أجهزة التلفزيون اليابانية، كانت الصورة فيه تنزلق ــ وهذا كلام مجازي ــ فجأة، يسارا أو يمينا على صفيحة الألوان، فترى وجوها خضراء و شعرا مزرقا يتوج رؤوس أناس مرتدين ملابس بنية في الشارع. (كان البني دائما في كل مكان. البني لا يتحول إلى أي شيء آخر، ولكن كل شيء آخر كان مهددا بالتحول إلى البني، باستثناء، ربما، الرمادي). قبيل تعطل هذا الجهاز، كانت حبيباته اللونية الـ: حمراء-خضراء-زرقاء، التي تمكن رؤيتها عن قرب، تبرق بلون بني-أصفر-أخضر خافت، فأنمناه بإعادته إلى اللونين الأبيض والأسود. وهكذا دخل الموز إلى مخيلتي، أول ما دخل، رماديا.
ثم أصبحت لدينا، بعدما صرت شابا، أساطيرنا الخاصة حول الموز. تخيلناه محملا في مؤخر مزلجة سانتا كلوز(2) (على الرغم من أنه كان علينا أن نسميه الشيخ الأشيب، لأن سانتا كانت لفظة دينية صرفة)، وما زلت أتذكر صورة ين-يانغ(3) ذات الأيائل الطائرة عبر الأراضي الجليدية تحت شمس استوائية حارقة، ورجلا أبيض يغني وهو يعين سانتا على تحميل المزلجة.
يأتي الموز إلى بلادنا عن طريق السفن، طبعا. تلك هي مرحلة السفر الخضراء من حياة الموز بعد الموت، حيث تسمع ثمار الموز، رغم طمرها عميقا في السفينة، صخب الموج وتحس بأرجل العناكب تدب على جلدها. لعله يأخذ في الميل نحو الاصفرار عندما يوضع على الشاطيء، ويبدأ في النضج بسبب اكتسابه معرفة جديدة بأرض جديدة. سرعان ما يُشرع في اختطافه من أيدي عمال المتجر الساخطين على الصف الذي لا نهاية له من الناس المقرورين الراغبين في الحصول على الرطلين المخصصين لكل منهم من الفاكهة الغريبة. لا أعتقد أنه يوجد وقت كاف لهذا الموز لأن يصير بنيا.
قرأت، بعد ذلك، خبرا في الصحيفة عن صبي لدغ من قبل عنكبوت كان مختفيا في عرجون موز، وأنه الآن في حجرة العناية المركزة. لا أعلم كيف وجد ذلك الخبر طريقه إلى النشر في الصحيفة، فالأخبار السارة فقط هي ما يسمح، عادة، بطبعه أو إذاعته في التلفزيون. لعل الجريدة كانت تلقي باللوم في هذه الحادثة على جهة أجنبية ما، على شركة استيراد ما. لا أتذكر. ولا أعلم ماذا حل بالصبي.
ولكنني أفكر في ذلك الصبي الذي عاد والده بهدايا مجزية، موز، برتقال، وربما شيكولاتة أيضا. أحاول التفكير في درجة السعادة التي دفع فيها يديه في عرجون الموز، كيف صرخ، ثم بكى وهو يخرجهما ويراقب الطفح الجلدي الأحمر وهو ينتشر بسرعة. أحاول أن أتصور سيارة الإسعاف التي وصلت هناك بسرعة، بالرغم من حدوث خلل ما في المحرك غير المعتنى بصيانته، وعلى الرغم من عدم وجود رمل أو ملح على الطريق الثلجي، وهي إحدى الحالات النادرة التي لا يتحول فيها شيء ما أبيض إلى بني.
فيما بعد، دهرا فيما بعد، حدث تفجر لوني عندما تغير كل شيء في البلاد: الوردي للحلي الرخيصة المجلوبة من تركيا من قبل مسافرين لا يكلون، الأزرق لون دم الأرستقراطيين العائدين إلى أرضهم، الأحمر الذي كان شعارا ممنوعا لشراب يسم حضارة بكاملها. على الأرجح كان هناك الأصفر لبارقة تفاؤل، مضفورا بخيوط من الأخضر، الأمال بالنمو. وهذا التفجر، مثله في ذلك مثل قوس قزح، لم يدم طويلا.
أحب أن أفكر في ذلك الصبي، أصبح شابا الآن، وهو يجتاز أخيرا حدود بلاده، التي كثرت الآن منافذها. لعله يسافر بحثا عن أحلام الطفولة، أراضي اللابون(4) أو مستوطنات استوائية. ربما ليزور فقط بلدا يكون فيه الموز متوفرا يوميا طوال السنة، حيث تنطرح أصابع الموز كبيرة وخضراء، على أرفف الأسواق الكبيرة. لعله سيسخط على الناس الذين ينكرون على أصابع الموز حقها في حياة مكتملة بعد الموت ــ أولئك الذين، لعدم درايتهم بخيار أفضل، يأكلونها قبل أن تكون مستعدة لتناول العشاء الرباني مع إلهها، قبل أن تكبر وتهرم.
لعله سيكون سعيدا بوفرة الألوان في الأسواق الكبيرة. أو يستغرب من أنه في مكان حيث الألوان مسموح بها ومتاحة تبدأ منازل كثيرة حياتها وتنهيها بالبني. أحب أن أتخيله يسافر ويندهش. آمل أن ذلك الصبي كان محظوظا بما يكفي لأن يعيش حياته بعد الموت، يعكس صورة ثمرة الموز، تاركا البني وراءه وملامسا الأخضر والأصفر في أحلامه.
(1) Cedric Popa أديب روماني يقيم في بريطانيا.
(2) Santa Claus شخصية متخيلة يعتقد بأنه يجلب الهدايا للأطفال عشية عيد الميلاد.
(3) Yin (في الفلسفة الصينية) المبدأ السلبي في الكون ممثلا في الأرض والأنثى والظلام والتشرب. ويكمله الـ Yang الذي هو العنصر الفعال في الكون ممثلا بالسماء والذكر والنور والاختراق.
(4) Lapon lands لم نعثر على تعريف بها.