منصة الصباح

شمعة‭ ‬تاسعة


زايد‭..‬ناقص‭ ‬
بقلم /جمعة‭ ‬بوكليب

قَدَرُ‭ ‬السفنِ،‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬التاريخ،‭ ‬أن‭ ‬تأتيها‭ ‬الرياحُ‭ ‬بما‭ ‬لاتشتهي‭. ‬لكن‭ ‬السفنَ‭ ‬هي‭ ‬السفنُ،‭ ‬صُنعت‭ ‬ووجدت‭ ‬بغرض‭ ‬أن‭ ‬تمخر،‭ ‬عباب‭ ‬البحار‭ ‬ومخاطرها،‭ ‬متنقلة‭  ‬من‭ ‬مرفأ‭ ‬إلى‭ ‬مرفأ،‭ ‬ومن‭ ‬قارة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬غير‭ ‬مبالية‭ ‬بأمزجة‭ ‬الرياح‭.‬
ما‭ ‬تفعله‭ ‬الرياحُ‭ ‬بالسفن،‭ ‬تفعله‭ ‬السفنُ‭ ‬بالبشر،‭ ‬وتأتيهم،‭ ‬في‭ ‬أحايين‭ ‬كثيرة،‭  ‬بما‭ ‬لايشتهون‭ ‬محمولاً‭ ‬على‭ ‬متنها‭ ‬من‭ ‬مدافع‭ ‬وجيوش‭ ‬وأحتلال‭..‬الخ‭. ‬والبشر،‭ ‬بدورهم‭ ‬يعلمون‭ ‬ذلك،‭ ‬لكنهم‭ ‬لايتورعون‭ ‬عن‭ ‬ركوب‭ ‬السفن،‭ ‬وتحميلها‭ ‬بالبضائع،‭ ‬واستقبالها‭ ‬في‭ ‬المرافيء‭.‬
الثورات‭ ‬كالسفن‭. ‬قد‭ ‬تغادر،محملّة‭ ‬بالسلع‭ ‬والبضائع،‭ ‬مرافئها،‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مبتغاها،‭ ‬لكنها‭ ‬قد‭ ‬تقع‭ ‬فريسة‭ ‬لتبدل‭ ‬أمزجة‭ ‬الرياح،‭ ‬وتبقى‭ ‬متأرجحة‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬البحر،‭ ‬تلعب‭ ‬بها‭ ‬الأمواج،‭ ‬وقد‭ ‬تلقي‭ ‬بها‭ ‬نحو‭ ‬الصخور،‭ ‬فتتحطم‭ ‬أشلاء‭ ‬وتغرق‭.  ‬والمحظوظ‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬الصمود‭ ‬ومصارعة‭ ‬الموج،‭ ‬حتى‭ ‬يصل،‭ ‬أخيراً،‭ ‬إلى‭ ‬مرفأ‭ ‬نهائي‭ ‬وآمن‭. ‬
للأسف،‭ ‬ثورة‭ ‬فبراير2011‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭  ‬لم‭ ‬تعثر‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬المرفأ‭ ‬والمستقر،‭ ‬ومازالت‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬البحر‭ ‬تهددها‭ ‬رياحٌ‭ ‬غير‭ ‬محلية،‭ ‬خطرة،‭ ‬وتتقاذفها‭ ‬أمواجٌ‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬بحارأجنبية‭. ‬وها‭ ‬هي،‭ ‬هذا‭ ‬الشهر،‭ ‬تصل،‭ ‬منهكةً،‭ ‬مرهقةً،‭ ‬عامها‭ ‬التاسع،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تجد،‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬مخرجاً‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬دوامتها،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬مستقر‭ ‬نهائي‭. ‬ومازالت‭ ‬واحلةً‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬مآزق‭ ‬خطرة،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬أن‭  ‬تطالها‭ ‬رحمة‭ ‬الله،‭ ‬وتنتشلها‭ ‬من‭ ‬الضياع‭ ‬والغرق‭.‬
ثورة‭ ‬17‭ ‬فبراير،‭ ‬في‭ ‬رأيي،‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬سفينة‭ ‬يتصارع‭ ‬على‭ ‬دفتها‭ ‬عدة‭ ‬ربابنة،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬ربان‭ ‬كفؤ،‭ ‬وكلهم‭ ‬يريدون،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها،‭ ‬بهدف‭ ‬الاستحواذ‭ ‬على‭ ‬حمولتها،‭ ‬غير‭ ‬عابئين‭ ‬بما‭ ‬تسببه‭ ‬اختلافاتهم،‭ ‬وتنافسهم،‭ ‬وتحاربهم،‭ ‬من‭ ‬أخطار‭ ‬قد‭ ‬تؤدي‭ ‬بهم،‭ ‬وبالسفينة،‭ ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬ومن‭ ‬فيها‭ ‬وعليها‭ ‬إلى‭ ‬الغرق،‭ ‬ضاربين‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬بكل‭ ‬التحذيرات،‭ ‬غير‭ ‬مبالين‭ ‬بالمحاذير،‭ ‬متجاهلين‭ ‬خطورة‭ ‬عواقب‭ ‬أفعالهم،‭ ‬وعنادهم،‭ ‬ومتناسين‭ ‬حكمة‭ ‬المثل‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الطمع‭ ‬وقطع‭ ‬الرقبة‭ ‬متحاديين‭.‬‮»‬‭  ‬
تسع‭ ‬سنوات‭ ‬مرهقة‭ ‬من‭ ‬الدوران‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المكان،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نغادر‭ ‬المربع‭ ‬الأول‭. ‬أُرهِقتْ‭ ‬خلالها‭ ‬خزائنُ‭ ‬الدولة‭ ‬بالنهب‭ ‬والسرقة‭ ‬والفساد‭ ‬والتبذير‭. ‬وتعطلت‭ ‬فيها‭ ‬عجلة‭ ‬الاقتصاد‭. ‬وأنتُهِكَتْ‭ ‬سيادة‭ ‬البلاد،‭ ‬وصارت‭ ‬حدودها‭ ‬مفتوحة‭ ‬مرتعاً‭  ‬خصباً‭ ‬لكل‭ ‬أنواع‭ ‬العصابات‭ ‬والمجرمين‭. ‬وحُرمَ‭ ‬الناسُ‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالأمن‭ ‬والآمان‭ ‬خوفا‭ ‬على‭ ‬حيواتهم،‭ ‬وممتلكاتهم،‭ ‬وكُتب‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يعيشوا‭ ‬على‭ ‬شفا‭ ‬هاوية‭ ‬قد‭ ‬تبتلع‭ ‬كل‭ ‬أحلامهم‭ ‬وأمانيهم‭ ‬وطموحاتهم‭ ‬في‭ ‬العيش،‭ ‬كما‭ ‬يتمنون،‭ ‬في‭ ‬وطن‭ ‬حُرّ‭ ‬وكريم،‭ ‬يتساوى‭ ‬فيه‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬الفرص،‭ ‬وأمام‭ ‬القانون‭.‬
تسع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬تسرّبت‭ ‬من‭ ‬أعمارنا،‭ ‬ومن‭ ‬مستقبل‭ ‬أولادنا،‭ ‬كماء‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأصابع،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬سفينتنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬نشتهي،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬بلادنا‭ ‬ما‭ ‬نتمنى‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬عزّة‭ ‬وكرامة‭.‬
‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬ثقيلة‭ ‬على‭ ‬القلوب‭ ‬والنفوس‭ ‬والأرواح،‭ ‬رأينا‭ ‬فيها‭ ‬بلادنا‭ ‬تتحول‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬سلام‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬يتجذر‭ ‬فيها‭ ‬الكُرهُ‭ ‬والعنف‭.‬
تسع‭ ‬سنوات‭ ‬مريرة،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬على‭ ‬القلوب‭ ‬والذاكرات‭ ‬نسيانها‭. ‬تحولت‭ ‬طرقنا‭  ‬إلى‭ ‬متاريس،‭ ‬وإلى‭ ‬بوابات‭ ‬وحواجز‭ ‬تفصلنا،‭ ‬وإلى‭ ‬ميادين‭ ‬لمعارك‭ ‬وقودها‭ ‬شبابنا‭ ‬ورجالنا،‭ ‬وبيوتنا،‭ ‬وأحلامنا،‭ ‬ومستقبل‭ ‬أولادنا،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تبدو‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬النفق‭ ‬بارقة‭ ‬أمل‭ ‬يتيمة‭ ‬تعيد‭ ‬إلينا‭ ‬ثقتنا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬بسلام،‭ ‬في‭ ‬وطن‭ ‬ترفرف‭ ‬عليه‭ ‬رايات‭ ‬المحبة‭ ‬والأخوة‭ ‬والتسامح‭.‬
قد‭ ‬يقول‭ ‬قائل‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الإمكان‭ ‬أبدع‭ ‬مما‭ ‬كان‭. ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬آخر‭ ‬فائدة‭ ‬ترجى‭ ‬من‭ ‬ثورة‭ ‬انتشلتنا‭ ‬من‭ ‬جُبّ‭  ‬الاستبداد،‭ ‬واستعادت‭ ‬انسانيتنا‭. ‬لكني،‭ ‬شخصياً،‭ ‬أثق‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬وما‭ ‬تحمل‭ ‬صفحاته‭ ‬من‭ ‬دروس‭ ‬ومعان،‭ ‬أهمها‭ ‬أن‭ ‬الزمن،‭ ‬رغماً‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬ويحدث،‭ ‬لن‭ ‬يعود‭ ‬للوراء،‭ ‬وقدرنا‭ ‬مواصلة‭ ‬السير‭ ‬للأمام‭.‬

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …