بقلم /سليم يونس
في خضم ما تعانيه بعض المجتمعات من اشتباك سياسي يتجاوز حدود الوحدة في إطار الحالة الاجتماعية الواحدة إلى التناقض, بل وتحول هذا الاشتباك السياسي إلى تناقض تناحري لها الأولوية , بحيث تتراجع معها كل النوازع والمصالح الذاتية, لصالح الحفاظ على الوطن ونسيجه الاجتماعي في مواجهة ما من شأنه أن يدمر الوحدة الوطنية وهذا النسيج الاجتماعي الجامع, بعيدا عن أي حسابات ذاتية ضيقة إلى جسر المساحات التي فصلت بين فئات وقوى اجتماعية متعددة; تعدت في بعض الأحيان منطق اللقاء إلى فضاء الخصومة; التي أقصى تجلياتها استخدام استدعاء العنف, من أجل تعزيز أو تأكيد رؤية; أو موقف يعتبره حاملوه أنه الصواب; في مواجهة موقف; أو مواقف يرونها خاطئة تماما.
إن شرط العيش المشترك بين القوى المختلفة يعني القبول بهذا الآخر مهما اختلفت معه , بل واحترام هذا التنوع , ومن ثم فإن جَسر المساحات الفاصلة بين الأطراف المتنازعة, التي يغذيها عدم الفهم المشترك; والتباين في الفهم المشترك للمسائل , هنا لا يمكن إلإ أن يُستحضر الحوار كسبيل وحيد لجسر المسافة الفاصلة بين القوى المختلفة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية , وإعادة الاعتبار إلى الوحدة الجامعة كسبيل وحيد لمغادرة مربعات الانقسام بعناوينها المختلفة .شرط أن لا يعني ذلك غلبة قوة على قوة أو قوى أخرى, ذلك أن قوة المجموع هي في وجود التناقض في إطار الوحدة , بمعنى أن الوحدة يجب أن تكون الناظم الاجتماعي والسياسي والقانوني لكل القوى مهما اختلفت , وأن هذه الوحدة يجب أن تتحمل التناقضات المختلفة, ولكن في إطار الوحدة ودون نفي أيا من تلك القوى للآخر, ولكن بالبحث عن وسيلة تحقق اللقاء, ولا شك أن هذه الوسيلة هي الحوار.
ولا بأس هنا أن نقارب هذه الوسيلة بالمعني اللغوي وفي المصطلح :
ذلك أن الحوار في اللغة يأتي: من حاور يحاور محاورة, وقد ورد في تاج العروس أن الحوار يعني تراجع الكلام, كما ورد في لسان العرب لابن منظور تحت الجذر (حور) وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام. والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة. وقد حاوره.والمَحُورَةُ: من المُحاوَرةِ مصدر كالمَشُورَةِ من المُشاوَرَة كالمَحْوَرَةِ
أما الحوار في الاصطلاح اللغوي فهو نشاط عقلي ولفظي يقدم المتحاورون الأدلة والحجج والبراهين التي تبرر وجهات نظرهم بحرية تامة من أجل الوصول إلى حل لمشكلة أو توضيح لقضية ما .
إذا الحوار يبدأ عندما يدرك الجميع مركزية البحث عن حلول لمشكلة ; أو مشاكل محل نزاع أو صراع , على أساس من أولوية التشخيص , الذي يقر بأن هناك قضايا تحتاج إلى علاج .. وهذا يعني ابتداء أن وعي كل القوى شرط حالة التنوع السياسي والفكري التي يعيشها أي مجتمع ديمقراطي, وأن هذا التعدد في الآراء والأفكار لا يعني بأي حال بأن يكون قدر الجميع هو الذهاب إلى الاحتراب , وإنما قبول الآخر كما هو , لكن ضمن المحددات الاجتماعية والقانونية التي يقررها الدستور, على أساس أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة في القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية , ولعل في هذا القول للإمام الشافعي « قولي صواب يحتمل الخطأ , وقول غيري خطأ يحتمل الصواب …» ما يعطي مثلا على أن هناك دائما مساحة لفهم واستيعاب الآخر;على قاعدة الشراكة في الوطن , دون تجريم الأطراف المتنازعة لبعضها البعض وإنما في البحث عن نقاط اللقاء والاتفاق.
والإقرار بذلك يعني التسليم بأن هناك وسيلة واحدة يجب أن يسلكها الجميع ; من أجل البحث عن اللقاء في نقطة محددة يجب أن يقتنع بها الجميع , وهي القواسم المشتركة , التي هي كلمة السر في تجاوز كل المنازعات والخصومات التي من شأن عدم حلها, استعار التناقض وصولا إلى التشظي , الذي لا نعتقد أن هناك عقل عاقل يمكن أن يقبل به أو يدعو إليه , رغم علو لغة الخطاب السياسي والفكري بين الأطراف المختلفة في غالب الأحيان.. وتخبرنا التجربة التاريخية أن حل التناقضات ضمن الحالة الاجتماعية الواحدة , طريقها الإجباري الوحيد هو عبر الحوار , إذا ما سلمنا بشرط الوحدة الذي يحتوي الجميع دون نفي , وأنه ما من أحد يمكن يمتلك كل اليقين السياسي والفكري .
وكون الحوار كما يقال هو منتج ديمقراطي بامتياز , فهذا يتطلب قبول الآخر المختلف , والعمل معه على صياغة رؤية مشتركة لا تغمط أحدا حقه , وله مع ذلك أن يناضل من أجل تبني الآخرين لرؤيته , ولكن عبر بوابة الحوار الذي هو ثقافة وسلوك ديمقراطي يجب تعزيزه .
وأخيرا نقول إن مبدأ القبول بالحوار لا يجب النظر إليه على أنه تعبير عن حالة ضعف لهذا الطرف أو ذاك , خاصة في الحالة الاجتماعية الواحدة, وإنما هو دليل قوة وثقة في النفس , ذلك أن القبول بالآخر مهما كانت التناقضات , يعني دعوة لتغليب مبدأ الوحدة , على أساس استيعاب التناقض في الوحدة كخيار فكري وسياسي واجتماعي, وذلك فيما نقدر; هو عنوان السلامة والصحة المجتمعية التي يجب أن يأخذ بها الجميع مهما وصلت حدة التناقضات .
سليم يونس