في لحظات الفقد الكبرى، تسكت الضوضاء،وتتراجع السياسة خطوات إلى الوراء، ليتقدم الإنسان أولاً.
رحيل رئيس الأركان الفريق محمد الحداد ورفاقه في حادث مأساوي، ليس مجرد خبر عابر في نشرة سياسية، بل محطة مؤلمة تعيد طرح سؤال قديم جديد:ما الذي يوحد الليبيين حقا؟
رغم سنوات الانقسام، وتعدد الحكومات، وتباين المواقف، أثبت الليبيون مرة أخرى أن لحظات الألم قادرة على كسر الفرقة التي صنعتها السياسة.
لم يكن مشهد إعلان الحداد في طرابلس وحدها، ولا في بنغازي وحدها، بل في ليبيا كلها، مجرد إجراء بروتوكولي، بل رسالة صامتة تقول: إن الدم الليبي لا يقسم، وإن الحزن لا يعرف الجغرافيا ولا الاصطفاف.
كارثة درنة ليست بعيدة عن الأذهان…. يومها، حين فاض الوادي وغرقت المدينة، فاضت معها القلوب قبل العيون من كل المدن والجهات…. لم يسأل أحد الضحية عن موقفه السياسي، ولم تفتش فرق الإنقاذ عن ولاءات سياسية، بل كانت ليبيا -بكل تناقضاتها- حاضرة في مشهد واحد: شعب يواسي شعباً، ووجع يتقاسمه الجميع.
واليوم… في مأساة سقوط الطائرة، يتكرر المشهد نفسه… الاختلافات ذاتها، والخرائط ذاتها، لكن الشعور واحد، والحزن واحد، والدعاء واحد…. وكأن الأزمات تأتي لتذكرنا بما نسيناه طويلاً: أن ما يجمعنا أعمق وأكثر بكثير مما يفرقنا.
الأزمات لا تنشيء وحدة الشعوب، لكنها تكشفها، أو بمعنى أوضح تصقلها… فالشعوب الضعيفة تخرج أسوأ ما فيها عند الشدائد، أما الشعوب العريقة المتجذرة في تاريخها، فتخرج أجمل ما فيها حين تجرح.
قد نختلف في السياسة، وقد نختلف في إيرادات النفط والغار، وقد تتباين آراءنا في قراءة الماضي، وقد نتجادل حول المستقبل، لكننا حين نفقد إنساناً، وحين تنكسر مدينة، نلتقي جميعاً في مساحة واحدة اسمها “الأخوة الليبية”.
ليس المطلوب من الحزن أن يتحول إلى خطاب، ولا من الفاجعة أن تستثمر سياسياً، بل المطلوب فقط أن نتعلم… أن نفهم أن هذه اللحظات التي نتحد فيها دون اتفاق أو وساطة، قادرة -لو أحسنا قراءتها واستغلالها- أن تكون أساسا لوحدة أعمق، لا وحدة طارئة تولد مع الكارثة وتموت بانتهائها.
رحم الله من فقدنا، وجبر الله قلوب أهاليهم، وحفظ ليبيا من مزيد الألم، فهذا الشعب مهما طال انقسامه، مازال يثبت في كل محنة أن الوجع الليبي واحد، وأن الوطن -حين يصاب- ينادي أبناءه جميعا… فيلبون.. ودون أي تأخير.
د. علي عاشور
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية