تحقيق/ إبراهيم الحداد
في الوقت الذي تتحول فيه العاصمة طرابلس إلى ورشة عمل كبرى، وتكتسي ميادينها بحلة خضراء ضمن مشاريع التحديث، يبدو أن «الإنسان» سقط سهواً من حسابات المخططين.
فبينما عُبِّدت الطرقات لتستوعب زئير المحركات، تُرك المشاة في مواجهة مباشرة مع الموت، ليحتدم الصراع بين أجساد نحيلة وكتل حديدية لا ترحم.

في هذا التحقيق، نكشف عن فجوة الأمان وغياب الجسور التي حوّلت طرقاتنا إلى مصائد للأرواح خلال عامي 2024 و2025.
الموت عبوراً..في مغامرة الذهاب إلى المسجد
على حافة “الطريق السريع” في منطقة أبوسليم المكتظة، يقف الحاج «سالم الشروى» كل يوم شاخصاً ببصره نحو الضفة الأخرى.
عشر دقائق تمر وهو يراقب سيارات تنهب الأرض نهباً، قبل أن يحاول عبور شارع يتجاوز عرضه 40 متراً.. يقول والحسرة تخنق صوته: “أشعر كأنني أغامر بحياتي في كل مرة أريد فيها الصلاة في المسجد المقابل”.
وبإصبع يرتجف أشار نحو الأفق البعيد مكملاً: “الجسور بعيدة جداً، والسيارات هنا لا تعترف بوجود كائن يمشي على قدميه”.. ثم صمت فجأة، وثبّت عينيه في عينيّ ليتأكد من وصول الرسالة، ورفع نبرة صوته: “في العام الماضي، رأيت شاباً يسقط أمام عيني في لحظة دهس لن أنساها أبداً”.
أرقام تنزف فوق الإسفلت
تتحدث لغة الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية بمرارة العاجز، فخلال عام 2024، سجلت البلاد أكثر من 3000 حالة وفاة، وهو أعلى مسبب للوفاة في البلاد، كان لحوادث دهس المشاة في طرابلس نصيب الأسد منها.
ومع حلول عام 2025، لم يهدأ النزيف، إذ سجل النصف الأول مئات حالات الدهس، خاصة في “طريق الشط” الذي يفتقر للجسور رغم كثافة المحلات والبيوت على جانبيه، و”طريق المطار” الذي تحول لمضمار سرعة مفرطة يحصد الأرواح يومياً.

طبعاً لا توجد تقارير رسمية تجزم بعدد الجسور في مدينة طرابلس، لكن بالسؤال أكثر من شخص في المدينة، بعد العد على أصابع اليدين الاثنين وتكرار العد، لم تتجاوز العشرين على أعلى تقدير في مدينة يقطنها أكثر من 3 ملايين إنسان.
تأبين لفقيد الصحافة..و التقصير
لم يكن رحيل الأستاذ «أبو بكر المسلاتي »، الصحفي والمراجع اللغوي بصحيفة الصباح، مجرد خبر وفاة عابر، بل كان صرخة بدم زكيّ سطر بها آخر مقالاته فوق الإسفلت.
رحيل “أبو بكر” هزّ أركان الوسط الصحفي وتلاميذه، وكان الدافع لنا لدق ناقوس الخطر؛ فالمأساة لم تعد مجرد إحصائية مرورية، بل هي أقلام تُكسر وبيوت تُفجع بسبب إهمال مسؤول لم يضع جسراً يحمي العابرين.
إن تأبين الشابي هو تأبين لكل ضحايا 2024 و2025 الذين تاهت أجسادهم بين خطوط الإسفلت.
هي دعوة أخيرة لتكون ” عودة الحياة ” حقيقية، تبدأ بسلامة الإنسان قبل جمال الشجر، ليتوقف هذا النزيف الذي لا ينتهي.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية