يواجه نهر دجلة، أحد أعمدة “الهلال الخصيب” والشريان الذي غذى أعظم الحضارات البشرية، تهديداً وجودياً غير مسبوق يضعه على قائمة الأنهار المهددة بالزوال، فبعد آلاف السنين من الجريان والعطاء، تحول النهر الذي يشرب منه نحو 18 مليون عراقي إلى ساحة للصراعات المائية والتلوث البيئي.
وتشير البيانات إلى أن النهر يتعرض لضغط خارجي هائل؛ فخلال الثلاثين عاماً الماضية، قامت تركيا (بلد المنبع) ببناء سدود كبرى أدت إلى انخفاض كمية المياه الواصلة إلى بغداد بنسبة 33%.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل قامت إيران ببناء سدود وتحويل مجاري الأنهار المشتركة التي تغذي دجلة بعيداً عن العراق.
ولم يعد الجفاف هو العدو الوحيد، فالتلوث بات يلتهم ما تبقى من مياه النهر، فقد كشف تحقيق لصحيفة “الغارديان” أن النهر بات ملوثاً بشدة جراء تدفق مياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية والطبية.
وتعود جذور هذه الأزمة إلى عام 1991، عندما استهدفت عملية “عاصفة الصحراء” البنية التحتية لمعالجة المياه في العراق، ومنذ ذلك الحين لم تتعافَ هذه المنشآت بالكامل.
واليوم، لا تتجاوز نسبة الأسر الحضرية المرتبطة بمنشآت معالجة الصرف الصحي 30%، بينما تنخفض هذه النسبة في الريف إلى 1.7% فقط.
وكشفت أرقام صادمة الواقع المحدق بالنهر التليد ،حيث سجل العراق انخفاضاً في معدلات الهطول بنسبة 30%.
ويعيش الآن أسوأ موجة جفاف منذ قرابة قرن، و من المتوقع أن يتجاوز الطلب على المياه العذبة العرض المتاح بحلول عام 2035، ففي عام 2022، صُنفت جودة المياه في مواقع عديدة ببغداد على أنها “سيئة جداً”، و في عام 2018 وحده، عولج ما لا يقل عن 118 ألف شخص في مستشفيات البصرة نتيجة شرب مياه ملوثة.
وتتفاقم الأزمة بفعل الهدر الداخلي، حيث يستهلك القطاع الزراعي في العراق ما لا يقل عن 85% من المياه السطحية للبلاد، وسط غياب لتقنيات الري الحديثة.
لقد وصل منسوب دجلة هذا الصيف إلى مستويات تاريخية منخفضة، حتى بات بإمكان الناس عبوره سيراً على الأقدام في بعض المناطق.
وبات إنقاذ “روح الحضارة” يتطلب تحركاً دولياً عاجلاً وإصلاحات جذرية في إدارة الموارد المائية، وإلا فإن المجتمعات العريقة التي عاشت على ضفافه لآلاف السنين ستواجه نزوحاً قسرياً وتغيراً جذرياً في نمط حياتها.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية