استطلاع / سعاد الفرجاني
في بلد لا تزال منظومته الصحية تعاني من التداخل المؤسسي وضعف الرقابة الميدانية، تحوّل ملف الشهادات الصحية للعاملين إلى نموذج صارخ لاختلالات التنظيم وغياب المعايير، فما كان يُفترض أن يكون أحد أهم أدوات الوقاية من الأمراض المعدية، أصبح في واقع الحال مجرد ورقة إدارية تُمنح بلا ضوابط، وسط ازدحام خانق أمام المراكز الصحية وتفاوت في نوعية الفحوص من منطقة إلى أخرى.
تتكدس الطوابير في الممرات الضيقة لمراكز الفحص، يتقاطع فيها عمال الأغذية والمطاعم مع مقدمي الخدمات والمهاجرين من دون أي إجراءات فرز أو حماية، في مشهد يعكس عمق الفجوة بين النصوص القانونية والتطبيق الميداني.
وبين ضعف التنسيق بين وزارة الصحة والبلديات، وغياب قاعدة بيانات وطنية، تضيع الغاية الوقائية للشهادة في دوامة الإجراءات الشكلية، لتتحول من “صمام أمان” إلى “نافذة خطر”.
ومن هذا المنطلق، التقت صحيفة «الصباح» عدداً من المختصين لوضع الإصبع على عرق الداء، وتشخيص مكامن الخلل في منظومة الشهادات الصحية، والبحث عن سبل إصلاحها بما يعيد الثقة إلى النظام الصحي.
غياب المرجعية

أكد الدكتور «عادل بلحاج»، نقيب طب المختبرات بليبيا، أن “مراكز إصدار الشهادات الصحية تشهد ازدحامًا شديدًا يفتقر إلى الحد الأدنى من التنظيم والسلامة”، مشيرًا إلى أن “الاختلاف في متطلبات الفحص من منطقة إلى أخرى يعكس غياب مرجعية فنية موحدة تشرف على جودة التحاليل والإجراءات”.
التفاوت في الإجراءات
وأوضح أن هذا التفاوت في الإجراءات “أفرغ العملية من محتواها الوقائي، ورفع احتمالية تسرب أمراض معدية كالتهاب الكبد الفيروسي والسل الرئوي إلى بيئات العمل”، مؤكدًا أن “الهدف الأساسي من الشهادة – وهو الحماية – أصبح ثانويًا أمام الطابع الإداري”.
النظام الموحد
وأشار «بلحاج» إلى أن النقابة العامة لطب المختبرات أعدّت مقترحًا وطنيًا شاملًا لإصلاح المنظومة، يقوم على توحيد المعايير الفنية والإجرائية، ويهدف إلى تحقيق العدالة في توزيع الخدمة وتعزيز التكامل بين الجهات المعنية. ويتضمن المقترح أربعة محاور رئيسة:
1.ضمان سلامة العاملين والمواطنين من خلال بيئة فحص آمنة.
2.تحقيق العدالة الجغرافية في توزيع الخدمة وتقليل الازدحام.
3.تعزيز التنسيق المؤسسي بين الوزارات والنقابات.
4.اعتماد مرجعيات فنية علمية موحدة على المستوى الوطني.
البلديات التنفيذية.
وبيّن «بلحاج» أن المقترح يُسند الدور التنفيذي للبلديات عبر مراكزها الصحية، فيما يتولى المركز الوطني لمكافحة الأمراض الإشراف الفني والعلمي، وتؤدي النقابة دورًا استشاريًا يضمن جودة التحاليل ودقة النتائج بالتعاون مع وزارتي الصحة والحكم المحلي.
قاعدة البيانات
وأوضح أن النظام الجديد سيعتمد نموذجًا موحدًا للشهادة الصحية مزودًا برمز تحقق إلكتروني يمنع التلاعب، ويرتبط بقاعدة بيانات وطنية تجمع المختبرات المعتمدة ونتائج الفحوص.
كما سيتم تحديد نوعية التحاليل المطلوبة وفق طبيعة المهنة، لتتمايز فحوص العاملين في الأغذية عن العاملين في المجال الصحي أو المؤسسات التعليمية.
تقليل الازدحام
ودعا «بلحاج» إلى توزيع نقاط الفحص بالتساوي لتقليل الازدحام، واعتماد مواعيد إلكترونية مسبقة، وتخصيص مسارات منفصلة للحالات المشتبه بها، إضافة إلى تطبيق معايير التعقيم والتباعد داخل المراكز الصحية.
تحسين الخدمة
كما أكد أن تطبيق النظام الموحد سيؤدي إلى خفض الازدحام بنسبة تتجاوز 70%، وتقليل خطر انتقال العدوى، وتحقيق نقلة نوعية في جودة الخدمة الصحية، مشددًا على أن “الملف الصحي لا يحتمل المزيد من العشوائية، وأن الشهادة الصحية يجب أن تستعيد دورها كأداة حماية للمجتمع لا مجرد ورقة إدارية”.
قلق المستهلك

من جانبه، عبّر «وائل الصغير»، رئيس مجلس منظمة «الرقيب» لحماية المستهلك، عن قلقه من تفاقم الازدحام داخل مراكز الفحص، مشيرًا إلى أن “اختلاط الأصحاء بالمصابين في طوابير طويلة يرفع خطر انتشار الأمراض المعدية بشكل مباشر”.
بروتوكولات التعقيم
وقال «الصغير» إن “تخصيص مسارات منفصلة للحالات المشتبه بها وتطبيق بروتوكولات التعقيم والمراقبة الفعلية للمعايير ليست ترفًا إداريًا، بل ضرورة لحماية الصحة العامة وضمان جدوى الإجراء الوقائي.”
متابعة مستمرة
وأكد أن “منظمة الرقيب ستواصل متابعة هذا الملف الحساس لضمان التنفيذ العملي للإصلاحات المقترحة، بما يعزز ثقة المواطن في الإجراءات الصحية.”
ثقة مجتمعية
كما شدد «الصغير» على أن الإصلاح المؤسسي يجب أن يترافق مع حملات توعية وتدريب للعاملين، حتى يدرك المواطنون أهمية الالتزام بالإجراءات الوقائية ودور الشهادة الصحية في حماية المجتمع.
تسويف ومماطلة

تحاول الصحيفة منذ فترة التواصل مع عدد من المختصين في المركز الوطني لمكافحة الأمراض في كل من طرابلس وبنغازي للحصول على توضيحات رسمية بشأن ما يُثار حول اضطراب منظومة الشهادات الصحية، إلا أن الصحيفة لم تتحصل حتى الآن إلا على وعود بالتواصل، ومماطلات متكررة، وتسويف في الرد، دون تقديم أي تصريحات رسمية توضّح الموقف أو تضع الرأي العام أمام حقيقة ما يجري داخل هذه المنظومة الحيوية.
الخاتمة
في ظل فوضى إدارية وصحية تتقاطع فيها المسؤوليات بين الجهات، يظل إصلاح منظومة الشهادات الصحية ضرورة وطنية عاجلة لا تحتمل التأجيل. فالصحة العامة ليست إجراءً ورقيًا، بل ركيزة أساسية لأمن المجتمع وسلامة أفراده.
وما لم تتحرك المؤسسات لتوحيد المعايير وبناء قاعدة بيانات وطنية حقيقية، ستبقى “الشهادة الصحية” مجرد اسم بلا مضمون، وورقة لا تمنع المرض بل تشرّعه بصمت.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية