طارق القزيري
حين يصدر قرار كالذي أصدرته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الليبية بإلزام طلبة الدراسات العليا بمادة “التفكير الناقد”، تتجاذبنا مشاعر متباينة: ترحيبٌ حذر بخطوة تبدو في الاتجاه الصحيح، وتحفظٌ عميق نابع من خبرات متراكمة مع قرارات مماثلة لم تثمر إلا حبرا على ورق.
لا يمكن إنكار ضرورة مثل هذه القرارات أحيانا. فهي تمثل اعترافا رسميا بوجود خلل، وإقرارا بأن منظومتنا التعليمية تفتقر إلى ما يفترض أن يكون جوهر كل تعليم حقيقي. حين تقر وزارة أن التفكير الناقد غائب عن مخرجاتها وتسعى لإضافته، فإنها تقوم بفعل الاعتراف أولا، وهو فعل له قيمته الرمزية والسياسية.
من مقرر دراسي الى ثقافة عامة
القرارات تخلق سوابق، وتؤسس لمرجعيات، وتفتح بابا للمساءلة والمطالبة. من دون قرار، يظل الوضع الراهن محصنا بغياب البديل المعلن. وهذا في حد ذاته إنجاز لا ينبغي التقليل من شأنه، فالاعتراف بالمشكلة نصف الحل كما يقال.
غير أن الاكتفاء بالقرار وحده يشبه من يصف الدواء دون أن يملك صيدلية، أو من يرسم خريطة لطريق لم يشق بعد. لا ينبغي أن نشعر بالرضا لمجرد أن قانونا صدر أو قرارا وقع. فالمسافة بين النص والتطبيق في سياقاتنا العربية عموما، والليبية خصوصا، مسافة شاسعة تتسع فيها المفارقات وتتوالد الإخفاقات.
كم من قرارات إصلاحية صدرت في العقود الماضية ولم تجد طريقها إلى الواقع؟ وكم من لوائح حملت عناوين براقة واستقرت في الأدراج المنسية؟ التاريخ التعليمي في ليبيا والمنطقة العربية عموما حافل بمثل هذه المحاولات التي تبخرت قبل أن تلامس الأرض.
المشكلة الجوهرية أن التفكير الناقد ليس مقررا يضاف، بل هو بنيةٌ ذهنية تبنى، ومناخٌ معرفي يصنع، وثقافةٌ تزرع عبر سنوات طويلة من التعليم المختلف جذريا. لا يمكن لطالب قضى ست عشرة سنة في منظومة تلقينية صارمة، تعاقب السؤال وتكافئ الحفظ، أن يتحول فجأة إلى مفكر ناقد بفضل مقرر واحد في الدراسات العليا.
الاستاذ قبل الطالب: ازمة الكادر التعليمي
التفكير الناقد يبدأ من السنوات الأولى، حين يشجع الطفل على التساؤل، وحين يحتفى بالإجابة المختلفة بدل معاقبتها، وحين يدرب العقل على التحليل والتركيب والمقارنة والتقييم. إنه مسار تراكمي لا قفزة مفاجئة.
ثم إن تدريس التفكير الناقد يتطلب مدرسين يمارسونه أصلا، ويؤمنون به منهجا للحياة لا عبئا وظيفيا. من أين نأتي بهؤلاء في منظومة أنتجت أجيالا من المعلمين وفق المنطق ذاته الذي نريد تجاوزه؟ البنية التحتية البشرية للتعليم في ليبيا، كما في كثير من البلدان العربية، تعاني من أزمات متشابكة: هجرة الكفاءات، وضعف التدريب، وغياب الحوافز، وتسييس التعليم، وشح الموارد. في هذا السياق، يصبح القرار أشبه ببذرة ألقيت في تربة غير مهيأة. والمفارقة أن من يفترض بهم تدريس النقد هم أنفسهم ضحايا غيابه.
الأعمق من ذلك أن التفكير الناقد لا يزدهر في فراغ. إنه ابن بيئة ثقافية واجتماعية وسياسية تحتضنه وترعاه. كيف نعلم النقد في مجتمعات ترتاب من النقد وتخشاه؟ كيف ننشئ عقولا متسائلة في ثقافة تقدس اليقين المطلق وتجرم الشك؟ كيف ندرب على التفكير المستقل في سياقات تكافئ الامتثال وتعاقب الاختلاف؟ التعليم ليس جزيرة معزولة، بل هو مرآة لمجتمعه وانعكاس لتوازنات قواه وقيمه السائدة. والثقافة لا تتغير بمراسيم.
قرارات وطقوس إدارية
هذا لا يعني الاستسلام أو التشاؤم المطلق، لكنه يعني أن ندرك حجم التحدي وطبيعته الحقيقية. تغيير العملية التعليمية تغييرا حقيقيا يتطلب إرادة سياسية مستدامة، واستثمارات ضخمة، وصبرا يمتد لأجيال كاملة.
في واقع التعليم الليبي اليوم، تبدو القرارات في كثير من الاحيان بنية سطحية. وربما – اقول ربما – تتحول الى حاجز يمنع التعمق في التفكير المنتج، ويحول دون فهم جوهر الازمة.
عندها تتناسل القرارات وفقا للمثل الليبي المعروف: “حرّك بالعود واعطي لمسعود” فلا يعود لاي قرار نكهته او اثره المقصود فعلا.”
الأمر يتطلب إعادة تأهيل المعلمين، وإعادة كتابة المناهج من الصفر، وإعادة تصميم بيئات التعلم، وتغيير معايير التقييم والنجاح. وهذا كله غالبا ما يكون خارج قدرات أهل التعليم وحدهم ومتناولهم، لأنه يستدعي تحولات في الثقافة والسياسة والاقتصاد معا. إنه مشروع مجتمعي شامل لا مجرد قرار وزاري.
فليكن القرار إذن خطوة أولى لا محطة أخيرة. وليكن حافزا للنقاش الأوسع حول ماهية التعليم الذي نريد، لا سببا للاطمئنان الزائف والرضا المبكر. فالتفكير الناقد، وبسخرية مريرة، يبدأ بنقد الطريقة التي نحاول بها تعليمه.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية