باختصار
د. علي عاشور
في السنوات الأخيرة بدأت تتشكل داخل الوسط العلمي والثقافي الليبي ظاهرة غريبة ومقلقة في الوقت نفسه، تكشف عن تراجع خطير في روح المبادرة والاهتمام المعرفي: (ثقافة الحضور المشروط بالدعوة الشخصية).
لم يعد الأمر مقتصراً على الأكاديميين، بل امتد ليشمل مثقفين وإعلاميين وقراء وطلاب دراسات عليا وأساتذة جامعات، وحتى بعض رموز النخبة الثقافية نفسها… الجميع ينتظر “الدعوة الخاصة” كي يتحرك، وكأن الفعاليات العلمية والثقافية أصبحت مناسبات شخصية لا فضاءات عامة مفتوحة للجميع.
المشكلة تتجاوز حدود السلوك الاجتماعي العابر، إنها أزمة وعي حقيقية، فكيف يمكن لمثقف يعرف نفسه بأنه رائد في الفكر والوعي أن يتجاهل ندوة فكرية أو جلسة حوارية حول موضوع يهم المجتمع، فقط لأنه لم تصل إليه دعوة رسمية باسمه؟ وكيف يمكن لإعلامي، يفترض أنه أول من يلاحق الفعاليات والأحداث، أن يتغيب عن مؤتمر يعنى بتطوير الخطاب العام أو مناقشة قضايا الرأي العام، فقط لأنه لم يدعوه المنظمين بشكل مباشر؟ أين شغف المعرفة؟ أين الحماس الثقافي؟ أين رغبة الاطلاع التي تعد أساس وجود النخب؟
كذلك، كيف يمكن لحامل الدكتوراه في القانون مثلاً -هو شخص يفترض أنه يتابع كل ما يتعلق بمجاله- أن يتغيب عن مؤتمر علمي في القانون لأن اسمه لم يرد في قائمة المدعوين؟ وهل حضور حدث علمي يحتاج إلى بروتوكول خاص؟ أليس نشر الإعلان في الصفحات العامة ووسائل التواصل كافياً؟ ألا يفترض في النخبة أن تكون سباقة إلى المعرفة، لا منتظرة أن تطرق أبوابها؟
ليس هذا فحسب، بل إن هذه العدوى وصلت إلى طلبة الماجستير والدراسات العليا أيضاً، فقد بات بعضهم لا يحضر حتى مناقشات زملائه، رغم أنها جزء من تكوينهم العلمي والثقافي، تجدهم في القسم الواحد والدفعة الواحدة، تجد تغيب الطلاب عن حضور جلسة المناقشة، والسبب فقط لأن الباحث لم يرسل لكل واحد منهم دعوة خاصة! هل فقدنا روح الجماعة التعليمية؟ هل أصبح التفاعل الثقافي مجرد خيار اجتماعي لا علاقة له بالبحث والاهتمام؟.
هذا السلوك لا يمس الأشخاص فقط، بل يضعف الحياة الثقافية والأكاديمية الليبية برمتها، فالمؤتمرات والندوات والجلسات الحوارية ليست مسارح للحضور الشكلي، بل منصات للتفاعل والتفكير والتأثير، فالنخبة – بكل تعريفاتها- هي من يفترض أن تحضر أولاً، وتناقش أولاً، وتثري المجتمع بأفكارها لا بغيابها.
غياب النخب عن الفعاليات التي تنشر دعواتها للعموم يعني شيئاً واحداً: وهو أن الثقافة لم تعد أولوية، وأن الشغف تراجع أمام حسابات الشكل والمجاملة الخاوية، وهذا خطر كبير على مجتمع يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى صوت العقل، ورأي المثقف، وحضور الوعي، وتفاعل المتعلمين والمتابعين.
باختصار…
المطلوب اليوم أن تعود النخبة إلى دورها الطبيعي: الحضور، المشاركة، المبادرة والتفاعل. فالدعوات العامة تكفي، والمحتوى وحده يجب أن يكون المحرك، والمعرفة لا تنتظر من يستدعيها…. فالثقافة لا تحتاج إلى دعوة شخصية، بل إلى من يذهب إليها وهو مقتنع أن حضوره واجب ووطن ووعي حقيقي.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية