منصة الصباح
د.علي المبروك أبوقرين

*الإدارة الصحية* 

الصحة في جوهرها ليست وظيفة من وظائف الدولة ، بل هي إحدى صور العقل الإنساني حين يبلغ أعلى درجات وعيه بذاته وبمعنى وجوده ، وهذا الوعي لا يتحقق إلا حين تُدار الصحة بوصفها علما دقيقا وفنا رفيعا ومهارة متراكمة ، وتخصصا صارما لا مجال فيه للمجاملة أو المزاجية ،

فالإدارة الصحية ليست منصبا يُمنح بل مسؤولية عظيمة ، تعنى بمستقبل وطن وبمصير ملايين ، وفي عالم تتداخل فيه المخاطر البيولوجية مع التحديات المناخية ، وتتشابك الأوبئة مع الحروب والصراعات ، يتضح أن الإدارة الصحية ليست هامشا إداريا ، بل مركز الوجود المؤسسي للدولة ،

فكل خلل في الإدارة الصحية هو خلل في بنية المجتمع نفسه ، وكل ارتجال في إدارتها هو ارتجال في حماية الصحة والحياة ، وكل محاصصة ومحسوبية فيها ليست خطأ إداريا بل اختلال أخلاقي ، ولذلك يصبح من العبث أن تُدار الصحة بالمصادفات والارتجال أو تُسند للمصالح ،

لأن هذا يشبه أن تضع مفتاح النجاة في يد من لا يعرف معنى النجاة ، إن الإدارة هي صورة العقل حين يتجسد في فعل ، عقل يحلل ويخطط ويقيس ويستبق ويقرأ المؤشرات ، ويفهم الديموغرافيا ، ويتحكم في البنى التحتية ، ويحول الفوضى إلى نظام والمخاطر إلى فرص ، ولا يمكن لعقل كهذا أن ينشأ في ظل الواسطة ، أو يزدهر في بيئة تُقاس فيها المناصب بالولاء ،

أو يعيش في منظومة يرى فيها البعض أن الصحة مجرد معادلة سياسية أو مساحة نفوذ ، إن الإدارة الصحية الحقيقية تقوم على ثلاثة أعمدة هي علم يُضبط به الفعل ، وفن تُصاغ به الحكمة ، ومهارة تُنقذ بها الأرواح ، ويضاف إليها الخبرة التي تراكمها السنوات ، والتخصص الذي يمنح القرار عمقه ، والبصيرة التي تمنحه اتساعه ،

فإذا سقط أحد هذه الأعمدة ، انهار البناء كله ،ولهذا يجب أن يكون المسؤول والإداري الصحي متمكنا بالضرورة؟ ، لأن الصحة مجال لا يمنح فرصة ثانية ، وخطأ واحد قد يعني حياة إنسان ، وتأخر قرار قد يكون ضياع مدينة ، وسوء إدارة قد يُترجم إلى جرح لا يندمل في ذاكرة الوطن .

والمعرفة هنا ليست ترفا ، بل شرط وجود ، فلا يمكن لمن لا يعرف الإدارة الصحية ، أو لمن لا يملك العلم والخبرة أن يقرر مصير الأرواح ، ولذلك فإن الإدارة الصحية ليست مجرد كفاءة بل كفاية تُغلق الثغرات ، واكتفاء يحصن النظام الصحي من الارتهان ، وقدرة على ترجمة المعرفة إلى جاهزية ،

والجاهزية إلى أمان صحي شامل ، ومن دون هذه المنظومة المتكاملة لا يمكن أن ينهض قطاع صحي ، مهما وُضعت له الخطط أو أُنفقت عليه الأموال ، فالنظام الصحي المتماسك والمتكامل القوي والفعال والمنصف لا يسمح بوجود ثغرة واحدة في جدار حماية الإنسان ،

ويصبح غياب الدواء الحديث والأصلي والموثوق جريمة معرفية قبل أن تكون نقصا لوجستيا ، ويصبح تأخر سرير واحد متطور متاح في لحظته خرقا لجوهر النظام ذاته ، والمنظومة الصحية القوية لا تعرف كلمة عذر ، ولا تترك مريض ينتظر مصيره ، ولا جريح في حادث يتألم بلا إنقاذ ، ولا مصاب في كارثة يواجه الموت دون تدخل سريع وعاجل ،

ولا يسمح لخطأ طبي أن يكون قدرا ، أو لإهمال أن يتحول إلى مأساة ، أو لتأخر فريق أو سيارة إسعاف أو قرار أن يكون ثمنه إنسان ، وفي النظام الصحي العادل لا يُجبر المريض على شراء حقه ، ولا يُدفع نحو المصحات الخاصة في الداخل أو الخارج لأن النظام العام تخلى عنه ، ولا يُترك مرضى الأمراض المزمنة والمناعية والأورام يطاردون الدواء في أسواق الظلام ،

فالدواء سيادة والسرير كرامة والخدمة واجبة ، والمريض ليس عبئا بل عنوانا لمستوى الدولة ، وهكذا تصبح الإدارة الصحية المتمكنة ليست إدارة قطاع ، بل حارسا لحق الصحة والحياة ، إدارة ترى في كل ثغرة احتمال موت ، وفي كل نقص احتمال أزمة ،

وفي كل لحظة تأخير احتمال فاجعة ، إدارة تبني منظومات وتشد الروابط ، وتؤسس وحدة متماسكة بين الوقاية والعلاج والتأهيل ، وبين التخطيط والتنفيذ ، وبين القرار والنتيجة ، وبين الإنسان والدولة ، وحين تبلغ الإدارة هذه الدرجة من الوعي والتمكن ، يصبح النظام الصحي كيان واحد لا ينفصل ولا يتفكك ولا يتفتت ولا يخون دوره ، ولا يتخلى عن أي إنسان ، نظام لا يُترك فيه مريض بلا علاج ناجع ومتقدم ومضمون ، ولا مصاب بلا سرير ، ولا مريض بلا دواء حديث وأصلي ومجاني ، ولا مجتمع بلا حماية ،

وهذا هو الفارق بين إدارة تأتي بالصدفة وترتجل وتهدر الأرواح والاموال ، وإدارة تُقيم دولة وتُحصنها ، وتتنبأ وتُنقذ وتنتصر للحياة . والحياة لا تدار بالامنيات ، والإدارة الصحية تدار بالعقل العارف والضمير الملتزم والإنسان الذي يفهم قيمة النفس البشرية ويجعل من منصبه وعدا بالصحة والعافية والرفاه …

د.علي المبروك أبوقرين

شاهد أيضاً

د.علي المبروك أبوقرين

الصحة ودوامة العام والخاص

د.علي المبروك أبوقرين في وطن عرف الجفاف قبل الماء ، والمرض قبل الدواء ، والجهل …