الهادي بوحمرة
من أكثر القضايا التي تربك الرأي العام مسألة تحديد المسؤولية عند وقوع خلل في منظومة العدالة. فقد يجد المواطن نفسه ـ بسبب تداخل الأدوار وتشابك الاختصاصات ـ أمام مشهد غير واضح، تُلقى فيه اللائمة على جهة لا تملك أدوات الفعل، بينما تتوارى الجهة التي تمتلك القرار الحقيقي. ويكون الحال كما لو أننا نلوم النافذة على دخول الغبار، ونتجاهل الباب المفتوح خلفها.
فعلى المستوى النظري، تبدو عملية إنفاذ القانون بسيطة: ضبط الجريمة، التحقيق فيها، ثم الإحالة والمحاكمة. لكن الواقع أكثر تعقيدا، لأن المسؤولية تُحدَّد وفق توزيع دقيق للصلاحيات بين جهات متعددة. وهنا تبرز أسئلة جوهرية: من يملك بدء التحرك؟ من يملك الإذن؟ من يقرر في النهاية؟ ومن يستطيع التعطيل؟
وغياب فهم هذه البنية يؤدي إلى توجيه النقد إلى الجهة الخطأ؛ فقد تُحمَّل جهة ما مسؤولية ما لا يدخل أصلا ضمن سلطاتها. ومن ذلك أن القاضي لا يملك سلطة الاتهام ومن ثم لا يبدأ الدعوى الجنائية، ولا يملك البحث عن المتهمين، فدوره يبدأ فقط عندما تصل القضية إليه من النيابة العامة، وإذا لم تُحرّك النيابة الدعوى الجنائية، يتعطّل دور القضاء تلقائيا. ومع ذلك، كثيرا ما يُوجَّه اللوم للقاضي لأنه الحلقة الأخيرة التي يراها الجمهور.
وفي المقابل، تُتَّهم النيابة العامة بالتقاعس رغم أن تحرّكها مقيّد بالقانون، فهي تخضع لمبدأ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، وإذا لم يتضمن التشريع تجريماً واضحاً لا يمكنها العمل. يضاف إلى ذلك أن المشرّع وضع حصانات إجرائية لعدد من الفئات، فلا تستطيع النيابة تحريك الدعوى في مواجهتهم إلا بعد الحصول على إذن من الجهة المختصة، وعند امتناع تلك الجهة عن منح الإذن، يقف القانون نفسه حاجزاً يمنع المحاكمة.
ومن الأمثلة الواضحة على سوء فهم توزيع المسؤوليات مسألة الحبس الاحتياطي، فالرأي العام يحمّل النيابة العامة مسؤولية الإسراف في استخدامه، بينما القانون يمنحها سلطة الحبس لمدة ستة أيام فقط. أما ما بعد ذلك فهو قرار يتخذه القاضي، بناء على طلب النيابة. ومع ذلك، يتجه النقد غالباً إلى النيابة لأنها الأقرب في الصورة، لا إلى الجهة التي تمتلك قرار التمديد.
وليس هذا الخلط حكرا على المجال الجنائي؛ بل يتكرر المشهد ذاته في الملف الدستوري، حيث يُسند النقد إلى الجهة التي تظهر في الواجهة، بينما تتوارى الجهات التي تحمل السلطة الفعلية. فالهيئة التأسيسية لصياغة الدستور أنجزت مشروع الدستور بأغلبية موصوفة تجاوزت الثلثين منذ 29 يوليو 2017، وأنهت مهمتها وفق التفويض الدستوري، إذ لا يدخل عرض المشروع على الاستفتاء ضمن صلاحياتها أصلا. ومع ذلك يُوجَّه إليها اللوم بتعطيل المسار الدستوري، بينما يتجاهل النقد من يملك أداة الفعل الحقيقية:
المفوضية العليا للانتخابات التي يوجب عليها القانون تنفيذ الاستفتاء، والبعثة الأممية التي تدير المشهد الليبي وتُعيد تشكيل مساراته عبر النخب التي تُبرزها وتقترح بها “بدائل” لمسار هو في أصله إلزامي بنص دستوري لا يملك أحد تجاوزه. وهكذا يتجه الضغط نحو الحلقة التي أنهت دورها، ويُعفى من بيده القرار والتأثير.
ومن أجل أن يكون الرأي العام قادرا على تقييم الأداء وتوجيه النقد الصحيح، لا بد من توضيح هذه البنية له، ومساعدته على معرفة الجهة التي تملك القرار الحقيقي، حتى لا يُسند الخطأ إلى من يظهر في الواجهة، ويُعفى من يملك السلطة الفعلية.
ذلك أن وضوح المسؤوليات يمثل خطوة أساسية لتعزيز الثقة في العدالة، وتوجيه النقاش العام نحو الإصلاح الحقيقي، بدل الاكتفاء بلوم من لا يملك أدوات التغيير
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية