عبدالسلام الغرياني
يصادف اليوم 15 نوفمبر 2025، الذكرى الحادية والثلاثون لرحيل الصادق النيهوم كجرح نازف يُلقي بظله الثقيل على واقعنا الحالي. ها نحن نعود إلى كتبه، إلى مقالاته الحادة، إلى ذلك الصوت الشجاع الذي هزَّ أركان الجمود الفكري والاجتماعي، فنجد أننا، وبكل أسف، لم نتحرك إلا في دوائر مغلقة. كأن الزمن توقف منذ أن خطَّ كلماته الأولى قبل أكثر من ستة عقود.
ساحر الكلمة المتمرد
كان النيهوم مفكراً استثنائياً، نادراً ما يظهر مثله في الزمن. بشجاعة نادرة، اخترق المسكوت عنه في المجتمع الليبي والعربي بسلاحين: الفكرة الجريئة، والأسلوب الأدبي الآسر في كل اعماله ليسقط كل الفرسان المزيفين، حفر عميقاً في جذور العلل بعد أن تخطى نقد السطح. قدم نقد التخلف كنظام فكري متكامل نصنعه بأيدينا، وحلل التعصب الديني كبنية اجتماعية مريضة تتخفى وراء برقع القداسة. واجهنا بمرايا صادقة لصورنا المشوهة، لكننا، بدلاً من أن نكسر المرايا، كسرنا حاملها.
نقد بلا صدى
المُحبط حقاً، و المُثير للشجن العميق، هو أن تقرأ للنيهوم اليوم فتظن أنك تقرأ تحليلاً معاصراً لوقتنا الراهن. لو عاد إلينا الآن، لما اندهش من تفشي الخطاب الطائفي، أو من هشاشة الدولة الوطنية، أو من أزمة التعليم المزمنة، أو من ثقافة الابتذال التي غزت كل مجال. لوجد أن نبوءاته المكتوبة بدم القلب قد تحولت إلى واقع مرير نعيشه كل يوم.
حذر من تحويل الدين إلى طقوس جوفاء تخلو من الروح، وها نحن نرى الصراعات المذهبية والفتاوى العابثة تستنزف طاقة الأمة. انتقد نظام التعليم القائم على التلقين والحفظ، الذي ينتج أجيالاً بلا قدرة على النقد أو الإبداع، ومدارسنا وجامعاتنا ما تزال تخرج، في معظمها، نفس النموذج. هاجم العقلية الذكورية المتسلطة، وها هي قضايا المرأة تدور في حلقات مفرغة من الجدل العقيم. رسم خريطة الطريق للتغيير، لكننا فضلنا البقاء في مكاننا.
لماذا يظل النيهوم ضرورياً؟
ربما يكون هذا هو السؤال الأكثر إلحاحاً. النيهوم ضروري لأن جرأته تشكل ترياقاً ضد النفاق الاجتماعي والسياسي. ضروري لأن كتاباته تجاوزت النقد إلى دعوة الإنسان لاستعادة وعيه وإرادته. هو ضروري كصوت يعيدنا إلى جوهر القيم: الحرية، والعدالة، والمساواة، والتسامح. في زمن يتصدر فيه الأكثر ضجيجاً، يذكرنا النيهوم بأن للفكر كرامته، وللثقافة رسالتها.
في سؤال الندم
بعد واحد وثلاثين عاماً على رحيله، نستذكر الصادق النيهوم لنسأل أنفسنا سؤالاً موجعاً: ماذا فعلنا بتراثه؟ لماذا يبدو كمن يصرخ في صحراء لا صدى لها؟ الذكرى محكٌّ لضمير أمة. ربما يكون أقسى أنواع الأسف هو أن تموت وأنت تحمل حلماً، ثم تكتشف أن أحداً لم يكمل المسيرة.
ها هو النيهوم يرحل جسداً، لكنه يظل حياً في أسئلته التي تنتظر إجابات، وفي نقدّه الذي حافظ على بريقه، وفي الحلم الذي ما زلنا ندّعي أننا نسير تحقيقه، بينما نحن في الحقيقة، وبكل أسف، لم نبرح مكاننا.
فلننظر الى اليأس في عينيه مباشرة، لنؤكد أننا أمة تستحق العيش، حتى لو انتظرنا سنوات عجاف أخرى. فلابد للحق أن ينتصر في نهاية المطاف.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية