منصة الصباح
طارق القزيري

ليبيا: حين تتحاور النخب والشارع يصنع واقعه!

طارق القزيري

في زمن الثورات المجهضة والشرعيات المتنازعة، تبدو ليبيا حالة استثنائية في تعقيدها، لكنها ليست استثنائية في جوهر أزمتها: أمة تبحث عن نفسها بين ركام الماضي وضبابية المستقبل.

المفارقة الليبية: من يملك ماذا؟

 

تختصر الأزمة الليبية في معادلة شديدة القسوة: من يملك الأدوات لا يملك الشرعية، ومن يملك الشرعية لا يملك الأدوات. هذا الانفصام هو جوهر المأزق. النخب السياسية – قديمها وجديدها – تتحاور في قاعات مكيفة وعبر بيانات منمقة، بينما الشارع الليبي يكتب واقعه اليومي بقواعد البقاء لا بمنطق المؤسسات.

الإعلام الذي كان أداة سيطرة في عهد النظام السابق، تحول اليوم إلى أداة فوضى. لكن السؤال الأعمق: أين نقطة التوازن بين التوجيه المفرط والانفلات المطلق؟ وهل بدأ الحنين لـ”النظام” – أي نظام – يتسلل فعلاً للوعي الجمعي الليبي؟

مصالحة المنتصرين: كيف تكسر الحلقة؟

كل طرف في ليبيا يريد مصالحة يكون فيها الآخر هو التائب والمعترف. هذه ليست مصالحة، بل تكريس لمنطق الغالب والمغلوب. المصالحة الحقيقية تتطلب شجاعة الاعتراف المتبادل بالخطأ، لا المزايدة الأخلاقية على الآخر.
لكن من يجرؤ على قول “أخطأت” علناً؟ من يقبل أن يتنازل عن سردية “الضحية النقية” أو “البطل المطلق”؟ المشكلة أن كل طرف يحاول تبرير خطئه اللاحق بخطأ الآخر السابق، في حلقة مفرغة تعيدنا دائماً للوضع الإشكالي نفسه.

الريع: سلاح السيطرة أم البقاء؟

النظام السابق وزّع الريع للسيطرة، والنظام الحالي – أو الأنظمة الحالية – توزعه للبقاء. الفرق تكتيكي لا جوهري. لكن الإشكالية الأعمق ليست فقط فيمن يوزع، بل في عقلية من ينتظر التوزيع.

فكيف نبني دولة حديثة ومجتمع منتصب الظهر في ظل ثقافة الانتظار هذه؟ هل المشكلة في النظام السياسي أم في البنية الذهنية التي تنتج هذا النظام وتعيد إنتاجه؟

الثقافة: ديكور السلطة أم أداة التفكيك؟

نتحدث كثيراً عن الثقافة والهوية، لكن ألم تكن الثقافة مجرد ديكور على جدار السلطة؟ في زمن القذافي كانت الثقافة “الشعبية” أداة للتجميل، واليوم تحولت “الثقافة الثورية” إلى شعارات جوفاء.

ما نحتاجه اليوم ليس ثقافة تجمّل الواقع المرير، بل ثقافة تفككه وتكشف تناقضاته. نحتاج قطيعة معرفية حقيقية مع منطق الماضي – كل الماضي – لا ترقيعاً أيديولوجياً يعيد تدوير الفشل بعبوة جديدة.

السؤال الأصعب: أين كنت ستقف؟

لو عاد بنا الزمن، هل كنا سنختار السلطة أم المعارضة أم المنفى أم الصمت؟ وأيها أكثر وطنية اليوم بعد كل ما حدث ويحدث؟ السؤال قاسٍ لكنه ضروري. لأن المصالحة الحقيقية تبدأ بمصالحة كل منا مع خياراته، قبل أن يطالب الآخر بالتوبة عن خياراته.

لجميع تقريباً كان “مضطراً” لخياراته، والجميع يحمل نصيبه من المسؤولية.

شرعية جديدة من رحم العجز المتبادل

بين شرعية ثورية لم تنجز شيئاً وشرعية سابقة انتهت صلاحيتها، كيف يمكن توليد شرعية – وسردية – جديدة؟ الإجابة ليست في استدعاء الماضي بصيغته “الثورية” أو “الجماهيرية”، بل في بناء عقد اجتماعي جديد يعترف بالتعددية الفعلية لا الشكلية، ويؤسس لدولة مؤسسات لا دولة أشخاص أو ميليشيات.

لكن من يمكنه فعل ذلك؟ من يملك القدرة والإرادة لقيادة هذا التحول بمعزل عن القدرات العسكرية أو المالية المباشرة؟

 

الخروج من النفق!

ليبيا لن تخرج من نفقها المظلم بمصالحات شكلية تعقدها النخب في القاعات المغلقة، ولا بانتصار فريق على آخر في معركة عبثية تتكرر بلا نهاية؛ إنما الخلاص مرهون بجرأة وطنية تعترف بالأخطاء اعترافًا صادقًا وشاملًا من كل الأطراف دون استثناء، وبقطيعة معرفية حاسمة مع منطق الريع والتبعية الذي استنزف الدولة وأفقدها روحها.

ومع انبثاق ثقافة جديدة لا تزيّن الواقع ولا تجمّله بل تفككه وتعرّي علله لتعيد بناءه على أسس راسخة، وبشرعية تُستمد من الإنجاز لا من الشعارات الفارغة، وبمؤسسات حقيقية تتجاوز الأشخاص والولاءات الضيقة لتجسّد الدولة باعتبارها كيانًا جامعًا لا غنيمة تتنازعها الأيدي.

الطريق طويل ومؤلم، لكن البديل هو الاستمرار في الدوران بالحلقة المفرغة نفسها: نخب تتحاور، وشارع يصنع واقعه، وبلاد تضيع بينهما.

شاهد أيضاً

جمعة بوكليب

بعد خراب مالطا

جمعة بوكليب زايد…ناقص زمان، كان بَاعةُ البيضِ يطوفون الشوارعَ والأزقة في المدينة القديمة حاملين قفافًا …