المفارقة أن تقف أمام باب مصرف خاص، يحمل اسمًا يوحي بالعراقة والهيبة « مصرف السرايا»..
لتكتشف أنك أمام عرض يومي من العبث، لا علاقة له لا بالخدمة ولا الثقة ولا العراقة..
تصلُ كمواطن محترم إلى مصرف محترم، يعلن أنه يفتح أبوابه من التاسعة صباحًا حتى الثالثة ظهرًا لاستقبال عملائه..
لكن ما إن تقترب حتى تتفاجأ بأعداد من البشر يقفون هنا وهناك بالقرب من الباب الرئيسي لفرع المصرف..
أمام العتبة يقف رجال أمن، يبادرك أولهم بسؤال:
“وين يا ماما؟”..
الطبيعي أنك تعلم وجهتك، لكن غير الطبيعي أن يجهلها رجل الأمن..!
ما علينا…
تردّ عليه بعد أن تنتبه إلى أن كثيرين يقفون وهم يحملون رقمًا صغيرًا، فتتدارك الموقف وكأنك أخطأت الوجهة وتقول:
“نبي رقم.”..
ثم تقف صاغرًا في انتظار تسلّمك ورقة، يفترض أن تحصل عليها بنفسك من آلة تقف بجانب الباب، قبل أن تدخل وتجلس على أحد الكراسي الحديدية رديئة التصنيع المسندة على الجدار..
لكن هذا الخيار غير متاح اليوم..
يمد رجل الأمن يده بورقة تحمل رقمًا، يطلب منك التوقف بعيدًا عن الباب، لأن من “غير اللائق” أن تقف هناك وتغلق المكان.!
يتدخل زميله — أو هكذا توحي بدلته العسكرية — قائلًا:
“بإمكانكم الانضمام للزبائن، الواقفين على الرصيف الآخر.. عند باب البناية الخاصة… البيت بيتي، ما ينزعج حد من وقوفكم هناك.”..
يقولها بثقة وكأن الرصيف ملكيته الخاصة، وهذا في نظره “أفضل” من التجمهر أمام المصرف، الذي يُفترض أنه فتح أبوابه لاستقبالنا.
الفرع الذي لا تتجاوز مساحته المائة متر، محاطاً بمدخل يراقبه أكثر من ستة رجال أمن، يتحكمون في حركة الدخول والخروج، وفي الرد على الزبائن، ومنح “الحق” لمن يشاؤون.. دون توضيح لطبيعة مهامهم..
لا لشيء سوى لإثبات أن السيطرة جزء من المشهد اليومي..
يعاود رجل الأمن النداء:
“101… 102…”..
قبل أن يقاطعه أحدهم ليهمس في أذنه، فيُدخله دون ورقة ولا رقم..
يستمر المشهد نفسه، يدخل شخص أو إثنان بالكاد، فيما يُترك عشرات الزبائن تحت رحمة مزاج رجل الأمن، الذي يقرر فجأة:
“تفضل، ادخل توّا.”..
في الداخل، لا تختلف الصورة كثيرًا..
ينادي الموظف بصوت غليظ:
“تسعين… واحد وتسعين… إثنين وتسعين…”
ينهض عميل، ويجلس غيره، بينما المقاعد شبه غائبة، والوجوه عابسة تتعامل مع الزبون وكأنه متطفل جاء يقتحم “نادي الصفوة”، لا عميلًا يدفع مقابل خدمة..
أما الخدمة نفسها فهي قصة أخرى:
عمولة تُسحب دون مقابل، وتطبيق إلكتروني يُلزمك بدفع اشتراكه شهريًا، رغم أن “الخدمات الرقمية” لا تتعدى شاشة تتعطل أكثر مما تعمل..
كان الموظف الذي استقبلني بشكلٍ جيد، أفضل ما حصل اليوم، وإن انتهى الأمر ب:
“اكتب طلب.”..
وكأنك تطلب خدمة استثنائية، لا حقا من حقوق العميل يمكن إنجازها عبر التطبيق..
لتتحول الزيارة — التي كان يُفترض أن تستغرق عشر دقائق — إلى معركة أعصاب طويلة امتدت لساعتين، وكادت تنتهي بمشادة لا مبرر لها، لأن أحدًا لم يشرح لك سبب الانتظار، أو سبب التجهم، أو سبب دخول فلان وتأخر علّان..
كل هذا يحدث خلف واجهات زجاجية لامعة، وشعار أنيق يختصر ما تبقّى من فخامة الاسم دون جوهر..
ولو فُتح باب المراجعة أو أُعيدت كاميرات المراقبة في تلك الفروع الصغيرة، ستظهر الحقيقة…
زبائن ينتظرون على الأرصفة، موظفون بلا أدوار واضحة، وأمنيون يتصرفون كأنهم حراس قصر، لا عاملين في مؤسسة مصرفية..
ومن المفارقات أن المصرف ذاته لم يوفر سيولة نقدية منذ أكثر من شهرين، إلا من خلال آلة سحب تعمل ليوم واحد وتتعطل ستة، بينما تستمر في خصم رسوم الخدمة وكأن كل شيء على ما يرام..
هل هذه هي المصارف الخاصة التي يستحقها الليبيون كبديل متطور للمصارف العامة..؟
أم أننا أمام نموذج جديد من “الاحتكار الأنيق”، الذي يبيعك الخدمة بسعرٍ مضاعف، ثم يُشعرك بالامتنان لأنه سمح لك بالدخول من الباب..؟!
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية