منصة الصباح

حِوَارٌ عَابِرٌ مَعَ صَدِيقٍ قَدِيمٍ

باختصار

د. على عاشور

  لم يكن للقاء موعد مرتب، ولا مكالمة سابقة هيأت له الطريق، كل ما في الأمر أنني توقفت عند إحدى إشارات المرور في طرابلس، فإذا بسيارة فارهة إلى جانبي، فجأة، انخفض زجاجها الجانبي، وإذا بوجه مألوف يطل علي بابتسامة عريضة، فما هو إلا صديق قديم، قد أصبح مسؤولاً كبيراً خارج البلاد.

تفاجأ كلانا، وابتسمنا بصدق اللقاء العابر، وتبادلنا كلمات سريعة قبل أن تضيء الإشارة الخضراء، أخذ رقمي على عجل، ثم ما لبث أن اتصل بي بعد أمتار، لنتوقف جانب الطريق ونتبادل الحديث الذي لم نتقاسمه منذ سنوات.

سألني عن أحوالي، وسألته عن أخباره، وغاص كل منا في تفاصيل غياب كلانا عن الآخر، ثم فجأة، ومن غير مقدمات، أشار إلى سيارتي التي كنت أقودها، وقال بدهشة: مازالت عندك هذه السيارة؟ أجبته بابتسامة هادئة: نعم. فأردف وهو يحدق فيها: يا رجل، بدلها… فيها بعض الخدوش، كما أن موديلها تجاوز عشر سنوات.

ضحكت وقلت له: أنا أقود هذه السيارة في شوارع طرابلس، لا في شوارع إنجلترا، وعندنا الازدحام طبيعي، والاحتكاكات لا مفر منها، ومن الطبيعي أن ترى خدشاً بسيطاً هنا وآخر هناك، أما أنت، فتعيش في مدن أنيقة، تكاد تخلو شوارعها من الزحام، حتى إن السيارة عندكم تبدو كتحفة فنية لا تلمسها الرياح.

ثم أضفت: أنا لا أرى في هذه الخدوش عيباً، بل أعتبرها جزءاً من الرحلة، السيارة ما دامت جديدة من الداخل، نظيفة، وتؤدي مهمتها، فلا داعي لأن أبدلها. أنا من الناس الذين يعتادون على الأشياء، حتى الجماد، وتربطني بها صلة صداقة وعشرة… إنها رفيق طريق، لا مجرد هيكل مطلي.

ابتسم صديقي، لكنه ظل ينظر إلى السيارة وكأنه لم يستوعب وجهة نظري…. هنا توقفت لحظة وقلت له: أتعرف يا صديقي، الخدوش في السيارة تشبه الخدوش في الحياة… كل إنسان، كل بيت، كل مدينة تحمل خدوشها الخاصة…. أغلب الناس في ليبيا يعيشون في الزحام سواء كان في الطرق أو في مشاغل الحياة، نتأقلم ونتجاوز…. لا نغير حياتنا كلما ظهر خدش صغير بل نستمر ونقاوم ونبرر ونتجاوز…. الخدوش تعلمنا الصبر، وتذكرنا أن الكمال وهم، وأن الجمال الحقيقي في القدرة على الاستمرار رغم كل شيء.

لقد أيقنت في تلك اللحظة أن الفرق بيننا لم يكن مجرد فرق سيارات أو ازدحام طرقات، بل فرق في الثقافة والنظرة إلى الأشياء….. في الغرب، ثقافة الاستهلاك تجعل الناس يبدلون الأشياء قبل أن تهرم، يغيرون السيارة أو الهاتف أو حتى البيت، بل وحتى الأصدقاء إذا لم يعد يواكب أحدث صيحة. أما نحن، فثقافتنا – وإن بدت للبعض قديمة – تحمل في طياتها شيئاً من الوفاء، وشيئاً من الرضا، وشيئاً من احترام ما بيننا وبين الأشياء من عشرة.

خرجت من اللقاء بذلك الدرس الصغير: أن الخدوش ليست دائماً سبباً للتغيير، بل قد تكون سبباً للبقاء، الخدش قد يحكي قصة صبر، وقد يشهد على رحلة طويلة…. المهم أن تبقى الروح صافية وراضية، وقبل هذا وذاك مشبعة بالقناعة، وأن يبقى القلب نقياً، وأن تظل الأشياء تؤدي غايتها. أما المظاهر، فهي تتغير كل يوم، ولا تبني حياة ولا تحفظ علاقة ولا ود.

ولعل أجمل ما في الأمر، أن درساً كهذا لم أجده في قاعة محاضرات ولا بين دفتي كتاب، بل جاء عند إشارة مرور، في حوار عابر مع صديق قديم.

 

شاهد أيضاً

«طريق البيفي».. انتظار طويل لحلٍّ دائم

«طريق البيفي».. انتظار طويل لحلٍّ دائم

استطلاع / آمنة رحومة مع كل موسم مطر تتجدد قصة طريق «البيفي» الحيوي في شرق …