طارق القزيري
شكَّلت ما يُدعى صحفيًا بــ “ثورة جيل زد” في المغرب، حيث تتصاعد أصوات غاضبة هناك ودول أخرى، بوابة سؤال عن شكوى واحدة تفجّرت في المغرب، وتتقرّح جلدتها في ليبيا رويدا كما يبدو رغم اختلاف التفاصيل: “لماذا تُنفق الدولة الملايين على المهرجانات والمؤتمرات الضخمة، بينما المستشفى في حيّنا لا يملك أسرّة كافية، وأمراض الأورام لا شحنات علاجية لها؟”..
السؤال ليس جديداً، لكن حِدّته تزداد، من المغرب إلى ليبيا، نشهد نموذجين متشابهين في الخطورة رغم اختلاف الظروف: دول تراهن على “الصورة”، بينما يراهن المواطن على لقمة العيش..
المغرب: عندما يسرق البريق الخدمة
المغرب يستضيف كأس إفريقيا، يستعد لكأس العالم، يفتتح قطارات فائقة السرعة، ويستقبل مؤتمرات دولية بتنظيم مُبهر. ينفق “10” مليار دولار لصورة خارجية رائعة، والإعلام العالمي يُشيد بقدرة المملكة على التنظيم..
وفي الأحياء الشعبية، الحكاية مختلفة. كما تابعنا في الشاشات العربية وغيرها: الأب الذي يقف أمام صيدلية عاجزاً عن شراء دواء طفله، لا يهتم كثيراً بأن بلده سيستضيف “مونديال 2030”..
الأم التي تنتظر ساعات في مستوصف مُحتشد، لا تشعر بالفخر حين ترى صور الاحتفالات الضخمة على التلفاز..
السؤال المشروع: هل العائدُ من هذه “السمعة الدولية” يصل فعلاً للمواطن البسيط؟ أم أنها استثمار في صورة الدولة على حساب وظيفتها، وهي ببساطة أن تقدم خدمات؟
ليبيا: الاحتفال فوق الأنقاض
في ليبيا، المشهد أكثر قسوة: دولة منقسمة، حكومتان، ميليشيات متعددة، لكن الجميع يتفقون على شيء واحد: إقامة الاحتفالات والمعارض وإطلاق “مبادرات الإعمار”..
المفارقة صادمة: طرابلس تستضيف معرضاً دولياً للبناء، بينما أحياء كاملة لا تزال بلا كهرباء منتظمة. وبنغازي تعيش على وقع الإنشاءات الضخمة، بينما المواطن يضع رأسه ليلاً على وسادته، مشغولاً بمؤونة أطفاله، أو سفرة لــ “تونس” لصورة مقطعية أو رنين مغناطيسي، يكلّفه ديونا لعام على الأقل..
هنا، الصورة ليست مجرد أوليَّة خاطئة، بل هي سردية لإدارة الانطباعات تغطّي العجز. وكل حفل جديد يزيد من غضب الناس، لأنه يذكّرهم بالفجوة بين الوعود والواقع..
الخطر المشترك هو استبدال الخدمة بالصورة: في المغرب دولة قادرة تبالغ في الاستثمار بالسمعة على حساب الأساسيات، فتتسع هوة الأوليات ويتصاعد التذمر؛ وفي ليبيا غياب الدولة الفاعلة يحوّل الاحتفالات إلى مهزلة تعمق السخرية، وتبدّل التململ إلى فقدان أمل، حين يدفع المواطن الفاتورة..
يا أصدقائي الأمر سرياليًا، ولنكن صريحين: المشاريع الضخمة ضرورية، لكن الخلل يبدأ عندما تُنفق الملايين على حفل افتتاح بينما تفتقر المدارس إلى المقاعد في الفصول، تُجمّل المدن لاستقبال “صانعي محتوى” أجانب بينما تغرق الأحياء في القمامة، تتأخر الكتب المدرسية بينما تُطلق حملات دعائية عن “إعادة الإعمار”.
وتتفشى البطالة بين الشباب بينما تُضخ الأموال في فعاليات استعراضية..
عندما تسبق الصورة الواقع تسرقه، وتُهمل الحاجات الأساسية لصدارة الاحتفالات، تسصبح التنمية مجرد وهم..
ماذا يريد المواطن؟..
الإجابة بسيطة ومباشرة: مستشفى يعالج قبل أن يموت المريض، مدرسة تعلّم بكرامة، طريق آمن، دواء متوفر، راتب يكفي الشهر..
لا أحد ضد التطور، ولا أحد ضد السمعة الدولية. لكن الترتيب مهم. حين تُرمم الدولة صورتها قبل أن ترمم مستشفياتها، فهذا ليس تطوراً، بل انقلاب في الأوليات..
لا أملك طموح نصح الحكومات، وكي لا أكون محرضًا، ألا يمكن تحويل “الاحتفالية” إلى إيجابية، بتخصيص جزء من تذاكرها إلى مرفق ما لتنميته، أقل وطأة من أن يدفع المواطن المنهك، ثمن ترفيهه الإجباري..
فالفكرة ليست إطفاء الأضواء، بل تعديل زاوية سقوطها: لن يضير حفلا أو مؤتمرا أو مباراة نجوم عالميين، أن يمولوا سريرا إضافيا وعلاج أورام، فالكارثة أن يبقى السرير بلا مريض لأن المريض لم يصل حيًّا..
السؤال الآن: هل تستمع الحكومات، ثم تفكر؟ فهي إن فكرت قبل أن تسمع، فثمة سيارة “بوكس شرطة” في طريقها إلى أحدهم، وعلينا انتظار أن ينفجر الغضب؟ هنا، كما حدث من هناك..