أشرعة
بقلم / جمال الزائدي
ما يسميه متذوقو الفنون التشكيلية بالرسم التجريدي الذي يعتبر « بيكاسو» من أهم رواده ، هو نمط متطور تعرفه الكراريس المنهجية بكونه مدرسة فنية تهتم بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، فيظهر مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان ..هذا يعني ببساطة أنك لا تستطيع ان تدعي إنجاز لوحة تجريدية دون ان تمسك بقواعد الرسم في مراحله الكلاسيكية والواقعية وووو.. ودون أن تمتلك إضافة لذلك تجربتك الخاصة في هذا المضمار ..
على هذا القياس لن تتمكن من انتهاك مملكة الشعر من بوابة ما بعد الحداثة ، لتلقي إلينا من نافذتك العالية بهذيان مشوش لا يعكس سوى ما يشخصه الطب النفسي ب «ضعف مهارات التفكير والتدهور المعرفي» ..وفوق ذلك لن تستطيع – مهما بذلت من جهد ووقت – إقناعنا بأن ما تفضلت بخربشته على جدارك «الفيس بوكي» أو ما نشرته لك وزارة ثقافة في بلد بلا دولة ولا مؤسسات محترمة ، لا يقل قيمة عما أنتجه علي الفزاني وأمل دنقل والصغير أولاد حمد.. أو عما ما أجبرنا على حفظه عن ظهر قلب من تحف المتنبي وعمر بن أبي ربيعة لأداء الامتحانات المملة في مادة اللغة العربية ، ثم لم نجد غيره حين كبرنا ، ليعبر عن أحوالنا في كل تفاصيل معيشتنا ..
الاستسهال باسم حرية الإبداع في كل أنماط الفن والأدب ، خصوصا في بلادنا ، سببه الأساسي و بالدرجة الأولى غياب « الماكنة» النقدية الفاعلة ، القادرة على « فرز» الغث من السمين ، وتسفيه أوهام الأدعياء معدومي الموهبة الذين ملأوا علينا الأرض تفاهة وخواء وسطحية .. لكن الاعتراف بمسؤولية غياب الناقد والنقد عن فوضى الهذيان الذي يستفحل كل يوم ، لا يبرىء المؤسسة الرسمية التي أمعنت في تهميش القيمة الاجتماعية والمعرفية للآداب والفنون ، بوضعها في ذيل قائمة الاهتمام الحكومي واستثناءها من الرعاية والدعم المالي الذي يذهب عبثا و في كل الاتجاهات دون وجود خطة وطنية شاملة تضع الثقافة والفن والادب في قلب مشاريع التنمية المجتمعية والبشرية..
على أية حال لا اعتقد أن في هذا الحديث جديد ..فعشرات بل مئات بل ألاف المقالات على مدى السنوات الفارطة تناولت ذات الموضوع ووضعت اليد على ذات الداء واقترحت ذات المعالجات ، ومع ذلك ظلت الأمور كما هي لم يتغير فيها شيء ولو بمقدار أنملة.. بيد أن ما يزيد الطين بله في الأوساط الثقافية المحلية هو هذا الكم الهائل من المجاملة المفرطة ، والمفرطة بتشديد الراء ، التي يتذرع بها الحقيقيون من كتاب ومثقفين في التعامل مع المزيفين والأدعياء ممن يشوهون الذائقة والذوق العام باسم الحداثة وما بعد الحداثة ..مجاملة تتجاوز أحيانا حدود غض الطرف والتسامح في غير محله ، إلى حدود القريظ والإشادة بما يهرف به هؤلاء المتطفلين على عالم الفن والأدب « ذكورا وإناثا» ..