منصة الصباح
د.علي المبروك أبوقرين

ليبيا والتأمين الصحي

في عالم تتسابق فيه الدول لإيجاد بدائل تمويلية تضمن استدامة أنظمتها الصحية ، يبرز التأمين الصحي كأحد أكثر الحلول رواجًا ، خصوصًا في الدول ذات الدخل الضعيف أو المتوسط ، أو تلك التي تعج بالأنشطة الاقتصادية الخاصة وتضم قوى عاملة ضخمة في شركات كبرى غير حكومية ،

في هذه النماذج حيث يشكل القطاع الصحي الخاص قاعدة عريضة ، يبدو التأمين الصحي للوهلة الأولى أنه أداة ذكية لتقاسم الأعباء وتوسيع نطاق التغطية . لكن هذا الوجه اللامع سرعان ما يكشف عن شروط قاسية لا بد من توافرها قبل الشروع في أي تجربة تأمينية .

ومنها بنية تحتية صحية متينة ومتكاملة قادرة على استيعاب الطلب وضمان الجودة ، وقطاع وقائي فعّال ورعاية صحية أولية شاملة تقودها منظومة طب الأسرة والصحة الواحدة والصحة الفردية ، وتوزيع مدروس للسعات السريرية والتخصصات الطبية ، وأعداد القوى العاملة الصحية المؤهلة ونسبتها بين بعضها ومع السكان ، مع نسب تغطية تلبي المؤشرات الديموغرافية والجغرافية ، ومنظومة تعليم طبي وبحث علمي متطور ، وصناعات دوائية محلية متقدمة ، ووعي صحي مرتفع وتشريعات صارمة تحمي الحق في الصحة وتضمن المساواة في الحصول على العلاج ، وسياسات صحية واضحة مطبقة في جميع قطاعات الدولة ومعمولا بها ، وهذه الشروط وإن توفرت في بعض الاقتصادات الرأسمالية الكبرى، تبقى في جوهرها متطلبات دولة قوية قادرة على الاستثمار في الوقاية والبنية التحتية والموارد البشرية ، وهو ما يجعل التأمين الصحي مجرد أداة تمويلية وليس بديلاً عن مسؤولية الدولة ، ولذلك تميل كثير من الدول الغنية رغم وفرة إمكاناتها إلى تمويل القطاع الصحي عبر الضرائب والموازنات العامة ، حفاظًا على مبدأ أن الصحة حق إنساني لا يخضع لابتزاز السوق .

وأما ليبيا فهي دولة ريعية نفطية قليلة السكان ، كان يمكن لعائداتها أن تؤسس لنظام صحي عام متين يمول من الثروة الوطنية ، لكنها تواجه واقعًا مغايرًا ومريرا ، نظام صحي مفتت وبنية تحتية صحية متداعية لا تواكب الاحتياجات ، واقتصاد مشوّه يعتمد أغلب سكانه على مرتبات الدولة ، وأمية صحية عامة وضعف في الوعي المجتمعي ،

ونقص حاد في الكفاءات الطبية والطبية المساعدة ، وافتقار للتخصصات النادرة ، وقصور في الكوادر الإدارية والفنية ، وعدم توفر خبراء في التخطيط الصحي وصناعة السياسات الصحية والاقتصاد الصحي والتمويل الصحي وفي ظل هذا الواقع ، يصبح التأمين الصحي بوابة واسعة للفساد والعبث والوهم بدلًا من أن يكون وسيلة للإنقاذ ، وتتحول مؤسسات التأمين نفسها إلى كيانات طفيلية متعايشة مع التلاعب ، ويتسلل إليها المتمارضون والسماسرة ، فيُستنزف التمويل وتتضخم الفواتير دون أي تحسن في جودة الخدمات ، وتزداد معدلات الأمراض بفعل غياب الاستثمار في الوقاية ، بينما تتوسع الأنشطة الاستثمارية الصحية على حساب الخدمات العامة ، فترتفع تكاليف العلاج وتتعمق الفجوة الطبقية بين من يستطيع دفع أقساط مرتفعة ومن يعجز عنها وآخرين لا يستطيعون دفع الفروق ، والأخطر أن الدولة التي يفترض بها أن تتحمل علاج 20% من إجمالي السكان وفق النسبة المتعارف عليها عالميًا قد تترك أكثر من 40% من المواطنين خارج أي تغطية تأمينية حقيقية ، ليصبح المرضى الحقيقيون فرائس لنظام صحي مسيّس يتاجر بالآلام ، والتأمين الصحي مهما بدت مظلته واسعة ، يظل آلية مالية بحتة ، فهو لا يبني مستشفيات ولا يطور مراكز طبية ، ولا يمول التعليم الطبي أو البحث العلمي ، ولا يدرب الأطباء والممرضين ، كما أنه عاجز عن التدخل في أوقات الأزمات والكوارث والحروب والصراعات والأوبئة ، ولا يغطي موجات النزوح والهجرة وما يصاحبها من مخاطر صحية جماعية ،

إنه ببساطة صندوق مالي يحدد ما يُغطى وما يُستثنى وفق معادلات الربح والخسارة ، لا منظومة إنقاذ شاملة ، ولا يقتصر الأمر على ذلك ، والتأمين الصحي يستلزم إنشاء هياكل تنظيمية إدارية وفنية معقدة تحتاج إلى شبكات واسعة من المكاتب والفروع ، وأعداد ضخمة من الموظفين في التسجيل والمراجعة والمحاسبة ، وأنظمة نقل ولوجستيات ومتابعة ميدانية ، وهذه المنظومات البيروقراطية التي تعيش على تدفق أموال المرض والعلاج ، تتحول بمرور الوقت إلى قطاع ارتزاق مستقل يشغله إداريون وموظفون لا علاقة لهم بالصحة أو العلاج ، يقتاتون على مشروع التمويل ذاته في اقتصاد هش ، فيزيدون العبء المالي دون أن يضيفوا قيمة علاجية حقيقية ،

وفي ليبيا حيث لم يتجاوز الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي 4% في أفضل الأعوام ( أي أقل من 20% من المستوى العالمي المفترض الذي يتجاوز 15% من الناتج القومي ) ، يصبح التأمين الصحي مغامرة خاسرة ووجهًا آخر من أوجه السوقية التي تشرعن استنزاف الموارد وتكريس الفوارق الاجتماعية ، والحل لا يكمن في استيراد نماذج تأمينية أجنبية ، بل في إعادة بناء القطاع الصحي من الجذور ، ورفع الإنفاق العام إلى المستويات العالمية ، وتطوير البنية التحتية وتجهيز المستشفيات والمراكز الصحية ، والاستثمار في التعليم الطبي والبحث العلمي ، وتمكين نظام وقائي ورعاية أولية قوي ، ووضع قوانين صارمة تحمي الحق في الصحة كحق إنساني غير قابل للمساومة ، فالصحة ليست مشروعًا تجاريًا ، بل ركيزة حياة وعدالة اجتماعية ، وأي محاولة للقفز إلى التأمين قبل ترميم الأساس لن تكون سوى قنطرة إلى مزيد من المرض والفقر ، ومغامرة تخدم القلة وتضر الأغلبية العظمى من المجتمع .

وبهكذا يتعزز وهم التأمين الصحي في دولة ريعية نفطية ذات اقتصاد مشوه وتعليم طبي متداعِ ، فيحول العجز لحلم زائف ، والاحتياج إلى فرصة للمتربصين ، وتساق البلاد إلى حلول تلفيقية تزيد الجرح عمقًا بدل أن تلتئمه ، والتأمين الصحي بلا نظام صحي راسخ سراب للمرضى ، ومغنم للمتمارضين ، ومزراب للكيانات الطفيلية وسوق للصحة التجارية .

الصحة حق إنساني

وصحة الأمة تقاس بمدى قدرتها على حماية أضعف مواطنيها ، ولا ينبغي أن يقرر حجم جيب الإنسان حجم رعايته

د.علي المبروك أبوقرين

شاهد أيضاً

د.علي المبروك أبوقرين

الإفقار الصحي

في ليبيا ، لا يقتصر المرض على كونه ألمًا جسديًا ، بل يتحول إلى قوة …