حنان علي كابو
يصرّ الكاتب جمال الزائدي على أن الكتابة ليست ترفًا ولا خيارًا، بل قدرٌ شخصي وفعل مقاومة. الصحفي الذي خبر تفاصيل الحياة اليومية عبر «أفيكوات» و«أتوبيسات» و«هدرزة قهاوي»، ثم عبر مجموعته القصصية «أصبع سبابة لحياة مخترعة»، يرى أن الكتابة حرب نخوضها من أجل استعادة أرواحنا المبعثرة. بين المقهى ووسائل المواصلات، بين الهامش والخيال، يكتب ليعيد تشكيل ما يتساقط من وجع الإنسان الليبي والعربي على حد سواء.
في هذا الحوار، يتحدث الزائدي عن علاقته بالزمن، عن الأمل والهشاشة والسلطة، وعن الكتابة التي تختار صاحبها لا العكس.
ضرورة لصيانة هويته …
_ الكتابة فعل مقاومة للزمن، أم نوع من المصالحة معه؟وهل ترى نفسك أقرب إلى “الراوي الشعبي” أم “المؤرخ ؟
أظنه الكاتب الفرنسي رومان رولان ، من يقول : – إذا كنت تستطيع العيش دون أن تكتب فلا تكتب ..
بهذا المعنى الكتابة ليست خيار ..بل ضرورة..والكاتب دون ادعاء ولا تنطع لا يختار الكتابة لكنها تختاره..
على الصعيد الشخصي ، أكتب لأنني لا أعرف عملا آخر غير الكتابة ، ولا أفكر عادة في تصنيف ما أكتبه أو في قيمته أو حتى الجدوى من ورائه.. هذه ليست مهمتي.. بل مهمة من يقرأ أو من يهتم بحكم المهنة..
بالعودة لسؤالك .. الكاتب في وجهة نظري لا يملك ترف المصالحة مع الزمن في مجتمع مازال يصارع من أجل صياغة هويته وتأسيس قواعده… إن الكتابة التي لا تتمرغ في وحل الواقع الإنساني هي أقرب للشعوذة منها إلى الأدب والفكر.. والذين يتجاهلون قضايا واسئلة الجماعة البشرية التي ينتمون إليها يتخلون عن فرصتهم الوحيدة ليتركوا أثرهم على الأرض التي سيغادرونها يوما .. وفي النهاية فيما يخصني .. فأنا لست أمتلك القدرة على إعلان نفسي مؤرخا ولا راويا شعبيا ، لأن الأمر برمته خاضع لمعايير أكاديمية لا تعنيني ويصعب على الإحاطة بها ..
القبض على لحظات استثنائية
_ لغتك تتأرجح بين الأدب والفلسفة.. تكتب للنخبة التي تقرأ ببطء، أم للجمهور الذي يلتقط المعنى بسرعة ؟
أكتب لكل من يريد أن يقرأ ولا أظن أننا في ليبيا نعيش تمايزا كبيرا يشطرنا إلى نخبة بالمعنى ” المعياري ” تتوفر على عمق ووعي مفارق في مقابل جمهور شعبوي ، فهذا الانشطار الصحي لا يحدث إلا في مجتمعات أنجزت خطوات متقدمة في رحلة تطورها ..لست أتعمد أن تبدو لغتي متأرجحة بين الأدب والفلسفة إنها تأتي هكذا في تداع حر يتناغم مع الفكرة التي تولد أولا فتكسوها الكلمات لحما وجلدا ..إنني فقط أحاول إعادة إنتاج ما التقطه من حولي وفق التصور الذي تتيحه لي تجربتي الشخصية في الحياة وكذلك ما تمنحني إياه قراءاتي غير المنهجية في الغالب .. وفي قناعتي لا يجب التعويل على قارئ بمواصفات محددة نكتب لأجله لأن ذلك يجعل من الكتابة عملا استهلاكيا يتوخى الإنتشار ولو كان ذلك على حساب المهمة الأساسية التي يفترض أن الكتابة وجدت لأجلها .. عندما كتبت ” افيكوات” و “اتوبيسات” و”هدرزة قهاوي” كان همي الأساسي القبض على لحظات ظننتها استثنائية في أزمنة إنسان الهامش..أي المواطن الليبي العادي الذي يعيش أزمة مركبة تطال تفاصيل معيشته اليومية كما تهدد وجود الوطن / الحلم الذي يشكل إطار هويته الثقافية والإجتماعية.. لكن عندما كتبت مجموعتي القصصية ” أصبع سبابة لحياة مخترعة ” كنت أطارد ظلال الوجع الإنساني العام على أوسع نطاق معتمدا على خيال محض أجنح به قدر استطاعتي إلى ضفاف الفانتازيا محاولا تخصيب اللغة بما يليق من رمز وتجريد وهي تتحدث بلسان الأدب السردي وتتعاطى مع قضايا شاملة ..
يوميات في أدب الهامش
_صدور أفيكوات كان ولادة لكاتب جديد أم استعادة لصحفي قديم؟
لا هذا ولا ذاك .. صدور” افيكوات “محطة طبيعية في سياق عملي بمجال الصحافة اليومية كل هذه السنين .. الصحفي كما أحب أن أتصور هو عبارة عن ” كاميرا ” بشرية ترصد الواقع وتوثق الأحداث عبر الكلمات.. وهذا ما فعلته بالضبط عبر صفحات الكتاب .. ربما ما ميز “افيكوات” عن المادة الصحفية التقليدية أنني صغتها بلغة غير اللغة الوظيفية التي نستعملها عادة في عملنا كصحفيين واجتهدت أن أبتعد بها عن الأسلوب التقريري الجاف ..
أكثر من ذلك .”.افيكوات” اساسا كانت عبارة عن يوميات درجت على نشرها في صفحتي على فيس بوك وفكرة طباعتها في كتاب اقترحها عدد من الاصدقاء الذين تابعوها بحب وحماسة وكرم تشجيع ..وأنا مدين بالشكر والامتنان لكل من وقفوا وراء إقدامي على هذه الخطوة ..
الكتابة كفعل حياة
_. كتبت المشاهد وأنت راكب بالفعل أم بعد أن تهبط من الأتوبيس وتعيد تركيبها ذهنيًا..هل المواصلات العامة منصة سردية أكثر صدقًا من قاعات الندوات؟
غالبا أبدأ الكتابة من داخل الحافلة وانهيها بعد وصولي إلى مقصدي أو حتى بعد وصولي .. انطلق من نقطة عشوائية منذ لحظة خروجي إلى الشارع في الطريق إلى المحطة وصولا إلى المكان المقصود ..في الأثناء يمكن للمزاج الخاص أن يحدد طبيعة رصد التفاصيل واستدعاء اللغة المناسبة ..أحيانا يطغى المزاج المتفائل واحيانا أخرى تمطر السماء صور وعبارات متشائمة ..لكن في كل الحالات أحاول بصدق أن أكون أمينا في التعامل مع الصور التي انقلها من الخارج ومع الحالة المزاجية التي تلتقطني من الداخل..
لا ألتزم بتقنية أو طقوس ثابتة في كتابتي لأني امارسها كفعل حياة وليس كممارسة شعائرية تحتاج إلى مواعيد وأماكن مقدسة وتكريس روحي.. أحد الأصدقاء المثقفين جدا وصف ثلاثية ” افيكوات ، أتوبيسات، هدرزة قهاوي ” بأنها محاولة للتأريخ من أسفل ..وصديق آخر في تعليق على الفيس بوك وصفها ب ” أدب الهامش ” ..لذا وإجابة عن الشطر الثاني من سؤالك انا منحاز للمواصلات العامة وللمقهى والشارع ونادرا ما أحرص على حضور مناشط ثقافية وندوات لأنني من هؤلاء الذين حلموا ويحلمون ويستمرون في الحلم أن يتحرك مركز الخطاب من أعلى إلى أسفل ليصبح ذات يوم من أسفل إلى أعلى ..
المقهى ترف وبديل عن المربوعة
_ كيف تقرأ اليوم التحولات التي أصابت المقهى الليبي من فضاء يُنظر إليه كترف إلى بديل عن “المربوعة” و”حجرة الجلوس”؟
المقهى في التصور المحلي القديم مكان يأوي المتبطلين ، لم تكن المقهى مفردة أساسية في قاموس الحياة الليبية ..وحتى وقت قريب قبل عشرين أو ثلاثين سنة كان الجلوس في المقاهي سلوك غير معتاد لفئات عمرية محددة… الآن بسبب التحولات القاسية في البنى الاجتماعية لمراكز العمران التي ارتبطت بتطور المفاهيم والقيم وما أفرزته الصراعات السياسية والعنف المنفلت من عمليات نزوح وتهجير ..صار ارتياد المقهى مستساغا للكثيرين ليس فقط كبديل عن ” المربوعة” بل أيضا كبديل موضوعي لغياب الأحزاب الشعبية الحقيقية وغياب النوادي الثقافية والاجتماعية الفاعلة ..
أدب اليوم ..أرشيف للتاريخ
_ في نصوصك يتضح أن الأدب “يهزم التاريخ” لأنه يمنح التفاصيل حياة. هل توافق أن ما يفعله الأدب اليوم قد يصبح غدًا أرشيفًا للتاريخ الاجتماعي؟
التاريخ الرسمي كما يروى في الكتب والجامعات والمدارس يهيمن على وعي الجميع منذ فجر الحياة على هذه الأرض ، ولن يهزمه تاريخ الهوامش ولا الأدب الواقعي الذي يتعامل مع المادة التاريخية على المدى المنظور من المستقبل .. قوة الخطاب المعرفي مازالت محتكرة ممن يملكون المال ويسيطرون على الموارد ..لكن ذلك لا يعني أن تتوقف المحاولات الجادة لتعزيز سرديات التاريخ الموازي أو ماسماه صديقي التاريخ المكتوب من أسفل إلى أعلى بالتظافر مع معادله الإبداعي المتمثل في أدب الهامش الذي يصلح دائما ان يكون مخزونا استراتيجيا لما أسميته في سؤالك ” التاريخ الاجتماعي ” .. دمقرطة التاريخ يظل غاية سامية ومشروعة لكنها حتى الآن تبدو كحلم من أحلام اليوتوبيا..
اجتهاد في رسم ونقل الهواجس
_في زمن السرعة والهواتف الذكية، هل لا يزال هناك مكان للحظة التحديق في العابرين ؟
لا خيار أمامنا نحن الجيل الذي ولد ونشأ في أزمنة أقل هوسا بالسرعة الفائقة ، إلا التمسك بالايقاع المكافيء لتركيبتنا النفسية والذهنية .. مازلت على المستوى الشخصي أتجنب الاستسلام كلية لتطبيقات التكنولوجيا التي تعزز انفصال الفرد عن محيطه الإنساني وتعطل تفاعله المباشر مع الآخرين..لذلك أجدني في تواصل وتعاطي دائم مع الناس في الشارع والمواصلات العامة والمقاهي ..اقرأ وجوههم عندما لا تكون أمامي فرصة للحديث معهم .. واجتهد في نقل نبضهم وهواجسهم كلما أمكنني ذلك ..
صوت احتجاج على بؤس الواقع
_ عنوان مجموعتك يشير إلى «إصبع سبابة» و«حياة مخترعة».. هل نحن أمام إدانة للواقع أم محاولة لاختراعه من جديد؟
يشتبك الأدب مع الواقع في علاقة جدلية متداخلة ومعقدة جدا ، ففي حين يعمل الأدب كمرآة عاكسة لانشغالات الإنسان الفرد ولقضايا الواقع الثقافي والاجتماعي..يحاول في ذات الوقت نقده وتفسيره والتأثير فيه من خلال محاصرته بالأسئلة وزعزعة مسلماته الزائفة ..ومن هذا التعريف المختزل لوظيفة الأدب يرضيني النظر إلى مجموعتي القصصية ” أصبع سبابة لحياة مخترعة ” كصوت احتجاج على بؤس الواقع الإنساني ، ومحاولة إعادة إنتاجه ليس ترفا أو ترفيها أو لغرض التخدير لكن للمساهمة في تفكيك مفاصل الظلم الذي يستولى على العلاقات بين الأفراد والجماعات ..
لا أحد يكتب من أجل الكتابة حتى أولئك الذين يرفعون شعار الأدب من أجل الأدب أو الفن من أجل الفن ، يؤدون رسالتهم وفق تصورهم لفلسفة الآداب والفنون كطريقة لفهم العالم وتفسير الوجود ..
الكتابة أسلوب للمقاومة
_الكاتب جمعة بوكليب وصف نصوصك بأنها «بحث عن أمل ضائع».. هل تعتبر الكتابة فعل مطاردة للأمل، أم إعلان لفقدانه؟
للكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس..مقولة أحب ترديدها كثيرا : – نحن محكومون بالأمل..
فإذا كان مجرد استمرار تمسكنا بالحياة هو مجاهرة باعتناقنا لدين الأمل.. فما بالك بممارسة الكتابة كأسلوب للحياة والإعلان عن الذات ..
بالنسبة لي الكتابة أسلوب مقاومة وطريقة فعالة للاحتفاظ بتوازني الشخصي وانحياز مطلق للجدوى ..
أن تكتب يعني أنك مازلت تحتفظ برأسك فوق الماء وتنظر إلى الشاطيء بعقل مستيقظ.. لا يعني هذا أن قلبك وعقلك محصنان تماما ضد اليأس و التشاؤم ، بالعكس فالكتابة تضعف مناعتنا تجاه تقلبات المزاج السوداوي.. تجعلنا أكثر عرضة للاكتئاب والنزوع إلى الوحدة والانسحاب ..لكنها أيضا تهبنا دأب وشراسة الصياد في مطاردة الأمل وملاحقة أثره حتى آخر المشوار..
في المقابل فقدان الأمل دلالته المباشرة الدخول في سلام الموت.. بينما الكتابة ليست سوى حياة أخرى ..حرب نخوضها من أجل استعادة أرواحنا التائهة في ليل المعنى ..
الهشاشة تيمة في السرد القصصي
_ في قصصك، هناك حضور قوي للهشاشة الإنسانية.. هل تكتب لإظهار الضعف أم للتصالح معه؟
إذا كان المقصود بالهشاشة المفهوم النقيض للقسوة فهي سمة فارقة في الطبيعة الانسانية .. الانسان لا يكون مكتمل الخلق إلا بهذه الهشاشة .. وفي تصوري لا يمكن أن تندرج الهشاشة في هذا السياق ضمن مرادفات الضعف .. حيث الضعف لا يفضي لشيء غير الاستسلام بينما شخوص القصص التي أكتبها في الغالب كائنات تصارع ظروفا تراجيدية شرسة وتتقبل مصائرها بصبر وعناد حتى عندما تتشظى أرواحها تحت وطأة المكابدة والمعاناة .. الوجع والألم جزء من صفقتنا مع الحياة التي نستمتع ببعض ما يتساقط من بين أصابعها من فتات .. وفي كل الأحوال حتى الضعف المفضي للاستسلام والذي يتجاوز مفهومي الخاص للهشاشة الإنسانية هو صورة ثمينة ضمن ألبوم الصور التي يتعامل معها الأدب كتيمة خالدة في السرد القصصي والروائي بمختلف مدارسه..
المشي في حقل ألغام دون خارطة
_قلت إنك وقعت في “فخ محكم نصبته الصدفة”، فهل الكتابة كانت خلاصًا أم قيدًا جديدًا؟
يمكن للكتابة ان تكون قيدا بالقدر نفسه الذي يمكنها أن تكون فيه سبيلا للخلاص..
ففي البيئات المجتمعية الخطرة التي تفرض خطابا ثقافيا أحاديا يتحصن وراء جدران عالية من التابوهات ولا يسمح بأي هامش لحرية الفكر والتعبير والاختلاف ..تصبح الكتابة وزر ثقيل يضاف إلى أوزار أخرى تثقل حياة الفرد ..
في مجتمعات كهذه أنت ككاتب يعطي لنفسه حق الاجتهاد في قضايا مفصلية تمس عصب المعاناة والبؤس الذي تغرق فيه الطبقات والأفراد، لا تواجه نسقا سياسيا استبداديا مؤقتا بل تضع نفسك في مواجهة انتحارية أمام بنية سلطوية مدججة بكل أسلحة الدمار الشامل من المنع والتجريم والتحريم.. وهنا تجد نفسك أمام خيار واحد بصيغة ثنائية – الخضوع أو الصمت..
عدو الكاتب والمفكر والمثقف ليست أنظمة متغيرة عبر الأزمنة..العدو عقل تاريخي استقر على مدى قرون كصنم تعبده القبائل التي تستوطن هذه الجغرافية ، ولا خلاص لنا ولشعوبنا إلا بتحطيمه..
في مجالنا المحلي العربي معظم كتابنا الحقيقيين يمارسون الكتابة بطريقة خطرة جدا تشبه المشي في حقل ألغام بدون خريطة ..
ربما لهذا السبب بالذات يتجه المبدع العربي للانفصال عن لحظته الراهنة واستحقاقاتها والاستغراق في إشكاليات وأسئلة ثقافة أخرى أنجزت مهمة التعامل مع واقعها المادي واستكانت إلى ترف التجريب والتجريد ..
البؤس في المجتمعات جامع مانع
_تصف مهنة التعامل مع الكلمات بأنها “بائسة”، فهل البؤس في الكلمة ذاتها، أم في المكان الذي لا يمنحها قيمة؟
البؤس في مجتمعاتنا جامع مانع ..يشمل كل تفاصيل الحياة في جوانبها المادية والمعنوية ..ولا يستثني الكلمة ولا الفكر ..
إنه لمن الإفراط في التنطع والوهم أن نطالب باحترام الكلمة و الإجتهاد والإبداع في بيئة لا تحترم آدمية أفرادها ولا تعطي قيمة لحريتهم الشخصية وتتدخل في أدق تفاصيل حياتهم حتى في ملبسهم ومأكلهم و في طريقة دخولهم للحمام .. الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم يقول مخاطبا الإنسان الفرد ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) ونحن في شمولية مرعبة نقول للإنسان الفرد ( كن خروفا في قطيعنا الجميل المطيع ) ..
الكلمة بائسة لأن كل شيء في هذا المكان بائس ويدعو إلى مزيد من البؤس ..
أكتب لاني لأعرف غير الكتابة .
_ وصفتَ في إحدى قصصك أن الكاتب في مجتمع لا يقرأ يُنظر إليه كأنه شخص مختل أو عاجز عن العيش بكرامة.. ما الذي يجعلك تُصرّ على الكتابة في بيئة قد لا تُنصف الكاتب ولا تحتفي به؟
– أكتب لأنني لا أعرف عملا آخر غير الكتابة ..
وبالنسبة لي الكتابة أسلوب مقاومة وطريقة فعالة للاحتفاظ بتوازني الشخصي وانحياز مطلق للجدوى ..
انا لا أتوهم لنفسي أي دور أو تكليف .. كل ما اعتقده بهذا الشأن ان الكتابة ضرورة وليست خيار ضمن حزمة خيارات ..
السلطة كتلة واحدة متعددة الوجوه .
_. في قصصك ومقالاتك نلمح نقدًا مزدوجًا للسلطة السياسية والدينية والثقافية.. أيها الأثقل على الكاتب في ليبيا اليوم؟
كلها مجتمعة..السلطة كتلة واحدة متعددة الوجوه.. كل وجه يدعم الآخر ويبرره .. تستمر السلطة بالضغط على عقل ووجدان الفرد مستغلة ثقل هيمنتها حتى تحيله إلى ترس في آلتها الاسطورية الجبارة أو عبد لا يتنفس ولا يتحرك ولا يفكر إلا برضاها ومباركتها..
تجليات السلطة تختلف باختلاف درجة تقدم الجماعات البشرية وموقعها في سلم التمدن والأنسنة..السطوة التي تحكم قبضتها على الفرد في مجتمع متخلف وجاهل لا يتورع عن استغلال الدين واسم الله لمصلحة الحكومات والتجار واللصوص الكبار ليست هي نفسها التي يعيش في كنفها الانسان في مجتمع أكثر تطورا وإنسانية يقنن العلاقات الاقتصادية والسياسية ويهذبها لإضفاء شرعية عقلانية وأخلاقية أكثر قربا لمفهوم العدالة والخير ..
استعارات قاسية
_. استخدمت استعارات جسدية قاسية (اللحم النيء، المرحاض، المشي على أربع).. ما المغزى من هذه القسوة اللغوية؟
أحد كتاب الغرب الكبار لا أذكر إسمه..يقول ما معناه : – هناك أوقات تبدو فيها الكتابة عن الأزهار وتغريد العصافير وهمس العشاق خيانة عندما يكون العالم غارق في الألم والمعاناة ..
قسوة الاستعارات والمفردات تأتي من قسوة الواقع الذي نعيشه..
اللغة نفسها في شكلها البدائي هي انعكاس لمعطيات بيئتها لذلك وجد الاختلاف بين اللغات .. لغة الأدب حتى عندما تعتمد المخيال المجنح وتقنيات المجاز والكناية وو لا يمكنها أن تنأى بنفسها عن تأثير الواقع ، حتى وهي تتوخى التأثير فيه .. بعيدا عن السؤال الذي نحن بصدده ، كمتذوق للشعر الليبي الفصيح أستغرب عندما أقرأ نصا لأحدهم يزدحم بصور غريبة عن الطبيعة التي نعيش فيها من قبيل ” الزنابق التي تطفو على وجه النهر الهاديء” أو ” قطيع الايائل الذي يعبر سلاسل الجبال الثلجية ” ..وأتساءل هل يحدث ذلك بسبب تأثيرات الترجمة أم أن هؤلاء تتقمصهم أرواح أشخاص عاشوا في ” ألاسكا ” او القطب الجنوبي ..