باختصار
قبل عامين عقدت في المدينة القديمة طرابلس ضمن فعاليات ليالي المدينة، أمسية ثقافية لم تكن كغيرها من المناسبات، كان اللقاء مباشراً، جمع جمهوراً نخبوياً من الإعلاميين والمثقفين والأكاديميين، وضيفه هو وجه مألوف لأجيال من العرب: الأستاذ علي أحمد سالم، الإذاعي العريق والممثل الليبي القدير، الذي خلدته ذاكرة الناس في دور بلال بن رباح في فيلم (الرسالة).
تحدث عن تفاصيل اختياره ليتقمص شخصية سيدنا بلال، وكواليس التصوير، ومواقف حدثت له مع ممثلين أخرين عرب وأجانب، لكنه تعمق أكثر في حديثه عن عمل سينمائي آخر، لا يقل عظمة عن الرسالة، بل ربما يفوقه وقعاً في نفوس الليبيين، وهو فيلم (عمر المختار)، تحدث الأستاذ علي عن تجربته كمساعد للمخرج السوري العالمي مصطفى العقاد، وعن الكواليس، والظروف، والوجوه التي غابت خلف العدسات لتصنع المجد.
كنا ننصت له مشدوهين، نتخيل اللحظات، قوة المعارك وأصوات البارود، والعيون التي واجهت البنادق، وتدافع المجاهدين نحو الموت دفاعاً على هذه الأرض الغالية…. بيد أنه كانت في داخلي غصة سؤال لم يجبني عنه الفيلم، ولا المقالات التي كتبت عنه، ولا حتى كتب التاريخ.
وما أن أنهى حديثه حتى فتح باب النقاش، رفعت يدي طالباً الإذن بالحديث، فأعطيت لي الكلمة بعد أن أعطيت قبلي لبعض الحاضرين، شكرت الضيف والمضيفين، ثم قلت للأستاذ علي أحمد سالم، بصوت ربما خرج محملاً بأكثر من مجرد سؤال: أستاذنا الكريم، لقد كنت من صناع فيلم أسد الصحراء عمر المختار… هذا الفيلم الخالد، وأنت ليبي، تعرف تفاصيل الشخصية الليبية، ثقافتها ولهجتها وعاداتها… لكن، اسمح لي بسؤال ظل يؤرقني منذ سنوات: لماذا صورتم عمر المختار دون أسرة؟ دون زوجة وأبناء؟.
سمعت همهمات داخل القاعة، لكن سرعان ما أسكتها الإعلامي (أحمد النايلي) الذي كان يدير تلك الجلسة الحوارية، توقفت قليلاً عن الحديث لأتأمل وجوه الحضور…. ثم تابعت، وأنا أشرح: لماذا أظهرتم عمر المختار في الفيلم: مجرد رجل يخرج من الصحراء، يجاهد، ويعتقل، ثم يشنق، دون أن يكون في الفيلم أي إشارة إلى أن لدى هذا البطل زوجة وأطفال… والحقيقة عكس ذلك تماماً.
ثم سألت: أليس من الظلم أن نظهر للعالم أن شيخ المجاهدين عمر المختار، لم يكن له ولد ولا زوجة؟ لماذا لم نره يودع أطفاله؟ أو ينظر في عيني زوجته قبل أن ينطلق إلى المعركة؟ لماذا لم يصف الفيلم ذلك البعد الإنساني العميق الذي يحول المجاهد إلى رمز حي، لا إلى أسطورة بعيدة؟.
تابعت قائلاً: في المقابل، لقد أظهرتم في نفس الفيلم المجاهد (بومطاري)، قائد معركة الكفرة، وهو يودع أبناءه وزوجته في مشهد لا يمكن وصفه بالكلمات، ويخرج إلى المعركة بعين تعرف أنها لن تعود…. مشهد جعل منه شهيداً قبل أن يعتلي صهوة جواده، حين احتضنته زوجته، واحتضن هو أبناءه كمن يودع عمره، ونظر إليهم نظرة تختزل التضحية والحب والفقد، ثم انطلق لملاقاة الغزاة بكل بسالة وشجاعة.
وكذلك صورتم لنا في نفس الفيلم، والد الطفل علي الذي ترك وراءه زوجة صغيرة في العمر، وطفلاً صغيراً لم يتجاوز العاشرة، ثم مضى نحو الشهادة دون أي تردد… فهل من العدل أن نظهرهم أكثر إنسانية من عمر المختار؟ رغم أن المختار، في الحقيقة، كان أباً وزوجاً، له بيت ينتظره، وأحباب يفتقدونه، وعيون كانت تلاحقه في كل معركة، بين الخوف عليه والفخر بما يقوم به من بطولات؟
ثم قلت: لا بد أنك تعرف جيداً المثل العربي القديم الذي يقول: (الولد مجبنة مبخلة)؛ أي أن وجود الابن يجعل الأب أكثر حذراً، وأكثر حرصاً على نفسه وماله وحياته، لأنه يعلم أن مستقبله وراحة أسرته مسؤولية تقع على عاتقه…. فكيف لرجل مثل عمر المختار، كان له أبناء وزوجة، أن يذهب كل يوم إلى ساحات الموت وهو يعلم أن عيونهم تلاحقه بالدعاء والخوف والرجاء؟
ألم يكن أكثر تأثيراً لو رأيناه في مشهد وداع؟ لو شاهدناه يضم أحد أبناءه إلى صدره، أو يسكت مخاوف زوجته بنظرة مطمئنة قبل أن يذهب لملاقاة الموت؟ ألم يكن ذلك كفيلاً بأن يرى العالم بأن هذا الرجل الذي قاوم طغيان وظلم إيطاليا، لم يكن مجرد قائد معارك، بل إنساناً من لحم ودم، ضحى بكل شيء من أجل وطنه، حتى دفء بيته؟
إنني لا أعاتب الفيلم… بل أعاتب الغياب… أعاتب تلك المساحة الفارغة التي تركت بين بندقيته من جهة وإنسانيته وقلبه من جهة أخرى، بين المعركة وملامح ابنه، بين حبل المشنقة… ويدٍ كانت ذات يوم تُمسك بيد صغيرة في طريق العودة إلى البيت… كان يمكن لتلك التفاصيل أن تحوله من بطل في نظرنا، إلى أيقونة إنسانية في نظر العالم.
سكن الصمت القاعة، وكأن الجميع قد شعر بثقل السؤال… أو بمعنى أوضح ثقل الحقيقة الغائبة.
نظر إلي الأستاذ علي أحمد سالم نظرة فيها شيء من الدهشة والاستغراب، وشيء من الحنين. ثم قال بصوته الهادي: والله يا ولدي… لم يخطر ببالي هذا السؤال من قبل… ولا أعرف له إجابة.
هنا فقط، أحسست أني لم أطرح سؤالاً على شخص… بل على جيل… سؤال تأخر كثيراً، بل كان يجب أن يطرح علي العقاد نفسه، وربما لم يكن له من يسأله في وقت كان العالم فيه يحتفل بالبندقية… وينسى من تركوا خلفها أطفالاً ودموعاً…
في تلك الليلة، خرجت من اللقاء، ولم يكن في ذهني مشهد شنق عمر المختار، بل مشهد لم يلتقطه الكاميرات: ذلك الذي كان فيه شيخ المجاهدين يجلس على الأرض، يصلح حذاء طفله الصغير، أو يضع يده على رأسه… وهو يهمس لزوجته بكلمات الوداع الأخيرة موصياً إياها بالحفاظ على نفسها وعلى الأطفال، قبل أن يركب فرسه نحو معركة يعلم أنه قد لا يعود منها.
نعم… تلك كانت قصتي مع فيلم عمر المختار، قصة سؤال بسيط… فتح بوابة منسية في التاريخ… وربما في السينما أيضاً….
د. علي عاشور