منصة الصباح
قفلة الكاتب.. تجارب الأدباء مع الفراغ الأبيض

قفلة الكاتب.. تجارب الأدباء مع الفراغ الأبيض

تقرير/ حنان علي كابو

هل حدث أن توقفت فجاءة أثناء الكتابة وعجزت عن استكمال نص.. وظللت في مأزق التوقف..

سُمّيت هذه الحالة بقفلة الكتابة.. وهي مساحة متباينة يعيشها الأدباء بحسب أسلوبهم وحياتهم اليومية؛ فبعضهم يراها ضيفًا ثقيلًا يفرض الصمت، فيما يعتبرها آخرون فرصة لإعادة اكتشاف النص والذات..

في هذا التقرير، نستعرض شهادات مجموعة من الأدباء الليبيين الذين يروون تجاربهم مع القفلة، وكيف تداخلت لحظاتها مع الفراغ الأبيض، الضجيج، الصمت، وحتى الدهشة..

القفلة ضيفٌ بلا موعد..

الكاتب “خليفة احواس”..

يفتتح الدكتور “خليفة احواس” حديثه موضحًا:-

القفلة حتمية، لكنك كمبدع لا تعرف بالضبط متى تحاصرك جيوشها، قد تبكيك أحيانًا، و تعلن قفل باب الاستمرار لديك، ما يحير تأسف حين يموت بطلك من حيث لا تحتسب.. “حنا مينا” ذات يوم حين مات بطله أقام سرادق، وظل يتقبل التعازي فيه ثلاثة أيام وهو ينحب. القفلة تكسر قلمك لكن قلم آخر يظهر في عالمك بلا إرادة منك، ليدشن مسارًا جديدًا لكنه مؤقت..

الكتابة وسط الضجيج والفراغ

الروائية “كوثر بادي”..

وتواصل الروائية “كوثر بادي” الحديث مستعرضة تجربتها الشخصية:-

من أكثر أسباب القفلة في الكتابة بالذات لكاتبة من ليبيا.. البلد الذي تحكمه الروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية، بالتأكيد هو التشتت والانقطاع الدائم عن مواصلة الكتابة، بسبب الضجيج وانعدام الخصوصية..

وهل أخشى الفراغ الأبيض حين اجلس إلى الورق..؟! لا أعلم تمامًا لأن الإلهام يأتيني غالبًا في أشد حالاتي انشغالا.. في السيارة.. وأثناء القيام بالأعمال المنزلية.. وأحيانًا خلال مرحلة الوسن ما بين اليقظة والمنام..

فحرصت دائمًا على وضع الورق والقلم في مكان قريب، لأسجل بها رؤوس أقلام الفكرة.. إذ أدرك أن عدم قنص الأفكار آنيا وتقييدها على الورق، تتبخر إلى الأبد..

وتضيف: قرأت في الماضي نصًا ل”غادة السمان”، مفاده أنها خصصت غرفة للكتابة، وضعت على بابها مصباحًا أحمر يضيء في حالة الكتابة، كتحذير لأفراد أسرتها بعدم الاقتراب..

فكرت في فعل شيء مماثل، لكن أخيرًا تمكنت من التأقلم مع الكتابة في غرفة المعيشة وأنا بين أولادي..

أحيانًا وعند إنهاء كتابة نص ما، وقبل الضغط على زر الحفظ، يصادف أن يلمس أحدهم لوحة المفاتيح عن غير قصد فيضيع النص إلى الأبد..

وتتابع ..
أذكر حين بدأت بكتابة “كل الطرق تؤدي إلى لبتس” في 2002، وأنا أتعرض للمقاطعة أثناء الكتابة من قبل إخوتي وهم صغار.. كبر إخوتي وأنهيت الرواية في “2008” وأنا أتعرض لمقاطعة الكتابة من قبل أولادي..

وتواصل …
هل للقفلة طعم؟! ربما هو إحساس أكثر منه طعم.. إحساس بذبول الروح.. وبالتيه.. لكنها حالة مؤقتة سريعًا ما تزول لتعود الروح أكثر صفاء وإشراقًا.
وللعودة إلى حالة الصفاء الذهني ألوذ بالطبيعة وبالقراءة.. تنخرط في عملية الكتابة وخلال ساعات يتفجر من براكين الروح نصوص جديدة تجعلك تتساءل بدهشة.. من كتب كل هذا؟!

القفلة كعنصر بنائي في النص

القاص “محمد المسلاتي”..

وفي نفس السياق يشاركنا القاص “محمد المسلاتي” رؤيته من زاوية السرد القصصي:-

• القفلة في النصّ القصصي عنصر مهم، خاصة القصة القصيرة جدًا، وله تأثير كبير على نجاح الكاتب في حبكة نصّه، بمعنى أن القفلة قد تتجه إلى المباشرة، إذا حاول الكاتب يصوغ للمتلقي حكمة جاهزة، أو موعظة مؤطرة.. في هذه الحالة يُنسف العمل الإبداعي بالكامل..

بالنسبة لي: تأتي القفلة مع تفاعل عناصر النصّ خلال السرد، وأشعر بالراحة عندما تكون القفلة حالة انفتاح النصّ على المتلقي، من حيث المفارقة، تحقيق الدهشة، وتمنحه عديد الاحتمالات عند تفاعله مع الحالة القصصيّة..

ويضيف .. لا يخيفني الفراغ الأبيض في الصفحة.. إنه يدفعني إلى خوض مغامرة الكتابة.. ليبدأ النصّ في تشكيل نفسه وفقًا للحالة القصصية التي يفرضها واقع ما، سواء كان عن تجربة عشتها، أو حدث مؤثر، أو خبر مؤلم سمعته..

︎ويواصل .. الصمت الذي يفرضه القلم من أصعب المواجهات التي تصدمني في بعض الأحيان.. لأن صمت القلم، يعني تجميد الكتابة، تكلس الحروف، وهذا يرتبط بالحالة الثانية المتمثلة في الضجيج التي تفرضه الحياة، والتناقصات التي تحيط بنا. فالضجيج في فترات ما يعلو على صوت القلم.. بذلك يفرض حالة من الصمت لكنها تكون مؤقتة..
ويتابع ..النصُ عالم يجمع بين الواقع والمتخيل يصنعه الكاتب، وهو لا ينفصل عنه من حيث طرح رؤية الكاتب ضمن النصّ. والقفلة كما ذكرت هي عنصر من عناصره، فمن المؤكد أن تجمع القفلة بين ما في أعماق الكاتب من مشاعر، ورؤى، وحبكة إبداعية افترضها السياق السردي..

• عندما يخونني القلم ألجأ إلى الصمت، ومحاولة إعادة ترتيب الأشياء داخلي، بالطبع يحدث هذا عندما يكون حجم الوجع في الحياة يتجاوز كل القيم الإنسانية. نحن لا نستطيع أن نرتب العالم من حولنا كما نريد، لكننا نحاول خلال فترة الصمت أن نعرف كيف نصيغ الواقع المؤلم برؤية فنية عبر النصوص، ونكسب ثقة القلم من جديد. إنها معادلة صعبة.. ولكن علينا فكّ رموزها..

• الكتابة بالنسبة لي لا تخضع لأي طقوس، ولا تتطلب مني تغيير مكاني. فهي حالة مفاجئة، أعيشها في وقت تكون مثل شرارة تتقد بلا مقدمات لأي ظاهرة تستفزني، أو حادثة مؤثرة، أو حالة إنسانية عابرة. من هنا تكون بداية النص. صحيح هناك محطات أقف عندها لمراجعة النص، وتصحيح ما أراه يحتاج إلى ذلك.
• لا أستطيع الحكم على نصوصي، أو تحديد مستوى أي قفلة. فهذه مهمة النقاد والقراء. وهناك أكثر من قفلة توقف عندها القراء، والنقاد.

• القفلة دائمًا تذكرني بحدودي ككاتب، وتعمل على إنقاذي من الإسهاب، والإطالة في السرد. وتنبهني أن النصّ انتهى هنا. تبدو مثل إشارة المرور الحمراء الملزمة للكاتب بأن يتوقف، وإلا تعرض النصّ للخطر..

• لا شك أن القفلة تعتبر تقنية حرفية مكتسبة من اتساع الخبرة الشخصية في الكتابة خلال الممارسة، ومن خلال القراءات لعديد النصوص لكتاب آخرين أيضًا.
• لا يمكننا أن نحدد للقفلة أي طعم، فهي تختلف من نصّ إلى آخر. كل نص يفرض قفلته التي تناسب الحالة القصصية..

• لا يمكننا اعتبار القفلة نوعًا من الكتابة السلبية، لأن الكاتب لا يستعمل القفلة لمجرد الزخرفة، أو تقليد نصوص أخرى، بل تأتي كضرورة فنية تكون بمثابة فتح تفاعل النصّ مع المتلقي، ليس في عصر كتابة النص فقط، أو مكانه، بل تجعل النصّ ينفتح عن الحالة القصصية ويعيد إليها الحياة في أي عصر أو مكان، وبذلك لا يموت النص مع انتهاء عصره، أو في مكان كتابته. القفلة هي التي تحقق الدهشة، والتأمل، والمفاجأة غير المتوقعة لدى القارئ وتمنح النصّ الاستمرارية حتى بعد موت الكاتب..

القفلة مساحة مباغتة بين النص والروح

الكاتبة “منى محمد صالح”..

وتستهل الكاتبة “منى محمد صالح” رؤيتها بقولها:

حين نتحدث عن “القفلة” في كتابة النصوص، لا نعني فقط اللحظة التي يتوقف عندها النص، بل مساحة غامضة تتأرجح بين الفني والنفسي. كثيرون يرونها ضيفًا ثقيلًا يفرض على الكاتب صمتًا قاسيًا، أما أنا فبطبعي أميل إلى اعتبارها صديقًا غامضًا يزور النص فجأة ليكشف عن أفق جديد..

القَفْلة عندي ليست قرارًا واعيًا بقدر ما هي كائن مُباغت يطرق النصّ، أيًا كان نوعه (شعر، قصة، رواية). أحيانًا أشعر أنها تكتبني أكثر مما أكتبها، تأتي في لحظة لا أتوقعها، ولا أراها عائقًا، بل استراحة ضرورية، لحظة دهشة تنبثق من عتمة الروح، لأن النص لا يُبنى على التدفق وحده، بل يحتاج إلى نفس تأملي طويل. لذلك لا أحبّ أن أجرّها إلى المألوف أو المتوقع؛ أتركها لمخيّلة القارئ، كي يمتلك النص بعد آخر، ويظل المشهد الأخير معلّقًا في فضاء من الأسئلة..

تواصل حديثها.. النهاية عندي ليست قَفْلًا، أو نقطة ختام باردة، بل شرارة ممتدّة. أحيانًا تُكملها العيون التي تقرأ، وأحيانًا يُكملها الصمت. أجدها دائمًا انفتاحًا على احتمالات جديدة. النص بالنسبة لي لا يُغلق بإحكام، بل يظل حيًّا في خيال القارئ، مثل حلمٍ لم يكتمل..

بالنسبة لي، لا أرى الفراغ الأبيض خصمًا، بل فضاءً مؤجَّلًا مشحونًا بالاحتمالات. في بياضه يولد السؤال، ومن السؤال يتشكل النص. ذلك البياض الشاسع يُغويني كمغامرة مفتوحة، ينتظر من يجرؤ على اكتشافه وتحويل صمته إلى إيقاع نابض..

الضجيج الذي تفرضه الحياة أشدّ قسوة، لأنه يبدّد صفاء التركيز الذي يحتاجه السرد. أمّا صمت القلم فأثقل، إذ يضعني أمام حدودي وهشاشتي، لكنه يظلّ ضرورة فنيّة، أشبه بصمت الشخصيات في لحظة الذروة، أو كقفلةٍ تتأمل ذاتها قبل أن تُحكم وجودها على الورق..

أؤمن أن النص ابن الداخل، وأن كل تعثّر في الكتابة يبدأ أولًا من القلب. كثيرًا ما تفاجئني القَفْلة وهي تولد من حيث لا أتوقّع، كأنها كانت تتربّص بي طوال النص. وحين تصل، لا أراها خاتمة بقدر ما أراها مدخلًا سريًا إلى نص آخر لم يُكتب بعد..

حين تتعثر الكتابة أتعامل معها كما يتعامل المرء مع الصمت أولًا، مؤمنةً أن خلق نظام يومي منتظم عامل أساسي لا يقل أهمية عن الكتابة نفسها. تنقذني القراءة دائمًا؛ فهي روتين هادئ يفتح أمامي طرقًا سرية ويعيدني إلى شغفي كأنني أكتب للمرة الأولى. وأحيانًا أنصت إلى الموسيقى فأجد فيها لغة أخرى موازية للنصوص، أو أكتفي بمحادثة قصيرة مع ذاتي، أستعيد بها حيوية الروح. هذه الوسائط لا أستعيض بها عن الكتابة، بل أتعامل معها كمرايا تعيد ترتيب داخلي قبل أن أعاود الانصراف للنص..

أُغيّر المكان أو الطقوس كلما لزم الأمر، وأحيانًا أترك الكتابة تأتي بلا استدعاء، إذ لا يمكن فرض النص بالقوّة. الكتابة لا تُستدرج، بل تُولد حين يجد القلم صدى الروح، سواء في الصمت أو الحركة أو المكان. أنا كائن صباحي؛ أميل إلى الكتابة في الصباحات الباكرو بعد الفجر، حيث يصفو العالم من حولي ويصغي لصوت القلم. ومع ذلك، ترافقني لحظات قلق تجعل النصّ عنيدًا، لكن القراءة تنقذني دائمًا، إذ تفتح أمامي طرقًا سرّية وتعيدني إلى مواصلة ما انقطع كل مرة..

كلما تحوّلت القفلة إلى شرارة، تكشف لي فجأة منفذًا لم أنتبه إليه من قبل. لا أراها قيدًا عند عتبة النص، بل لحظة مباغتة، كعصفور يهبط على كتف المعنى ثم يحلّق في فضاء القارئ. وأؤمن أن الكتابة، مثل الطيور المهاجرة، تأتي وحدها متى شاءت، وحين تجد فضاءً آمنًا للتحليق… كل ما عليّ فعله هو أن أُعدّ لها العش..

وتضيف ..نعم، حدث أن كتبت في قلب القفلة نصًا اندلع فجأة من مكان مجهول، كأنها لم تكن انسدادًا بل تراكمًا ينتظر لحظة الانفجار. وغالبًا ما تذكّرني القفلة بالاثنين معًا: بحدودي ككاتبة، وبأفق يتجاوزها، فتفتح أبوابًا جديدة تكشف الزوايا المظلمة للنص وهشاشتي في الوقت ذاته، لكنها تدفعني أيضًا للبحث عن لغات وزوايا أخرى لم أكن أعلم أنني أملك القدرة على استكشافها..

هي جزء من الحرفة وجزء من الحياة معًا، لحظة امتحان حقيقي أمام اللغة، حيث يُختبر صبر الكاتب وصموده قبل أن يجد طريقه إلى النص التالي. وتذكّرني بأن النصوص العظيمة لا تُكتب دفعة واحدة، بل تنبثق تدريجيًا عبر تعثّر وارتباك آسر، محفّز لا يُمكن تجاوزه..

ولو كان للقفلة طعم، لكان مركّبًا: مرًّا، مالحًا أحيانًا، ومحايدًا أحيانًا أخرى. لكنها ليست غيابًا محضًا، بل كتابة صامتة تتغلغل في الأعماق، وقد تشبّعت بذلك الصمت، فتتحوّل المرارة فيها سريعًا إلى شغف طازج، كقهوة سوداء توقظ الروح بعد سبات طويل..

قد تكون القفلة أيضًا شكلًا من “الكتابة السلبية”، نصًّا يتشكل تحت سطح الصمت، لكنها تترك أثرًا لا يُمحى بسهولة، وتدفع النص للنمو في مخيلة القارئ أكثر مما ينمو في روح الكاتب. النصوص الكبيرة غالبًا تولد من هذا المكبوت، من هذا الغياب الذي يصنع حضوره الخفي..

تختتم حديثها ..القَفْلة، في النهاية، ليست موت النص، بل حياة أخرى له. لذلك أفضّل أن أبقيها غامضة، معلّقة، بعيدة عن اليقين؛ فالنصوص التي تُغلق بإحكام سرعان ما تُنسى، أما النص الذي يظلّ مشرعًا على الريح فهو الذي يعيش أطول، ويظل طازجًا وملهمًا في المخيلة، حيث تبدأ الحياة الأخرى للنص بعد الصفحة الأخيرة، وهناك يكمن سحر الكتابة مفتوحًا على احتمالات لا متناهية..

شاهد أيضاً

ضبط هندي متهم بالانتماء لتنظيم داعش

أكدت قوة التدخّل والسيطرة – فرع المرقب إلقاء القبض على شخص يحمل الجنسية الهندية، ومنسوب …