منصة الصباح

بغداد

نافذة

بقلم / محمد الهادي الجزيري

 

 

و قد انتصف اللّيل فيها

لحياة الرايس

« قدري أن أكتب خلودي بالكلمة

كوهم جميل يساعدني على البقاء »

تصدّر حياة الرايس كتابها الجديد « بغداد وقد انتصف الليل فيها « بأنّه عبارة عن  سيرة شخصيّة و سيرة – مكان – يتراوح بين تونس و بغداد و سيرة أشخاص عاشرتهم وعاصرتهم، فإذا هي وثيقة ثقافيّة و اجتماعيّة و سياسيّة و حضاريّة و تاريخيّة على العصر، إحياء لعمر يبعث من جديد..، فالمكان لمن يُبدعه و الزمان لمن يبعثه حيّا ، نبضا خافقا ..، وقد لخّصت كلّ هذا في جملة أولى:

(مذكرات طالبة تونسيّة في بغداد )

وها إنّي أقرأ هذه المذكرات بشغف ..فمثلي لا يفوّت شيئا عن عاصمة الدنيا وخاصة بقلم امرأة لها الحبّ والقدرة على الإبداع …والتي تلخّص كلّ ما قلته : .  « من قال إنّني أهاجر من بلد الى بلد؟

لست أقيم سوى في اللغة

وأسكن بين الحرف والمفردة وأتوسد الجملة وأتبسط وسع الفواصل والنقط…؟»

تفتتح القصّ بتاريخ له دلالة خاصة وهو 7 سبتمبر 1977 إذ حطّت قدماها على أرض بغداد ، فتاة من أسرة محافظة يغبطها الكلّ في العائلة الكبيرة على السماح لها بالسفر ومواصلة دراستها الجامعية بعد تحصّلها على شهادة الباكالوريا وتوجيهها غصبا عنها إلى قسم الأدب الفرنسي ..، لكنّها أرادت بغداد فكان لها ذلك، إذ وافق والدها آنذاك على هذه المغامرة « بل بتشجيع منه خرجت وسافرت ودرست « كأنّه يلبّي رغبة نفسه فقد كان يمنّي النفس برؤية دولة هارون الرشيد …

ثمّ تبقى بنا في تونس لتحدّثنا عن « أمّي بيّة»  المرأة ذات الأفضال عليها وعلى الأبناء جميعا بل على العائلة الكبيرة، ثمّ تواصل التوغّل في القصّ فتعرض لنا لمحة عن مسقط رأس والدها  «سيدي شعبان الفهري » قبل أن تعود بنا إلى بغداد وإلى مبيت الطالبات حيث سكنت ، ولعلّ ذاكرتها الحديدية منحتنا هذا التعبير العراقي رغم طول المدّة على لسان المشرفة على المبيت حيث تقول: «خطيّة طالبة عربية » وتفسّر معنى الكلمة التي تطفح بالأمومة والحنو والعطف

تأخذنا حياة الرايس إلى قسم الفلسفة حيث سجّلت اسمها لتدرس واصفة لنا الجوّ العام ، دهشة العاملة في قسم الفلسفة من كونها تونسية ..بل أوّل فتاة تونسية تسجّلها وكان ذلك في مبتدأ السنة الدراسية 1977 / 1978 ..، وعرّجت بنا الراوية إلى تونس وإلى الكتّاب حيث بدأت التعلّم ..وإلى أهمّ الكتب التي التهمتها ..وإلى أهمّ الأسماء السينمائية التي شاهدتهم في أماسي السبت ….. توغل بنا في ثنايا العراق وطلبته ومجتمعه وتاريخه وكلّ ما يمتّ إليه بصلة ..، وتعرج بنا إلى « فارس « الطالب السوري الذي حاول أن يضمّها إلى حزب البعث في سنتها الأولى ..وتمضي بنا من الذاتي إلى الشأن العام.. بأسلوب شيّق ..لبق ..مكثّف وفيه أسرار ووقائع كثيرة عاشتها الكاتبة.

اخترت لكم هذا المقطع الدالّ عن وزن الكليّة آنذاك وقيمتها ..كانت منارة عاصمة السلام…

.  « هناك عرفت طلبة شباب من روسيا،وآسيا، والهند والصين،  ومن اليابان، باكستان، ماليزيا،أوروبا الشرقية، أمريكا، والبرازيل ومن إفريقيا…  بالإضافة إلى كل الجنسيّات العربيّة خاصة من فلسطين ولبنان والكثير من أبناء المغرب العربي أيضا…كانت فسيفساء ثقافيّة الألوان وعادات وديانات وسلوكيات مختلفة تجمع بيننا المعرفة والعلم ورحابة صدر هذه الكليّة التي تشعرك كأنّك في قلب العالم..» وخير ما نختم به هذا المتن الروائي القيّم كلام على فيروز: « كنّا  كلّ يوم نصحو على صوت فيروز … و لا أحد يجول بباله أن يتساءل إن كانت فيروز مسيحيّة أو مسلمة ؟ بل هي: فيروز:إيقاع الصباح في حياتنا والوجدان المشترك بيننا والذاكرة التّي تجمعنا ».

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …