حوار: حنان علي كابو
يتحدث الكاتب الليبي معتز بن حميد في هذا الحوار عن تجربته الأدبية المتنوعة بين القصة والمسرح والرواية، متناولًا فوزه بجائزة “كتارا” للقصة القصيرة، ومفهوم الإخاء الذي صاغه أدبيًا في نصه الفائز “وهج اللؤلؤ”.
يوضح بن حميد سبب تركيزه على القيم الإنسانية بدلًا من القضايا العابرة، ويتأمل في تطوره ككاتب شاب استطاع أن يصنع لنفسه حضورًا عربيًا لافتًا.
كما يسلط الضوء على ازدهار الأدب الليبي مؤخرًا، ويتحدث عن علاقته المبكرة بالمسرح، ورؤيته لدور الأدب في مقاومة الحرب، مؤكدًا أن الكتابة ليست هروبًا من الواقع، بل وسيلة صادقة لمواجهته وفهمه بعمق إنساني.
“كتارا”،ومنح النصوص حياة أخرى .
* ماذا تعني لك جائزة “كتارا” للقصة القصيرة، لا سيما بعد فوزك بالمركز الثالث عن قصة (وهج اللؤلؤ)؟
جائزة “كتارا” للقصة القصيرة تعني لي الكثير؛ لأنها جائزة تُمنح في سياق عربي واسع، وتحت مظلة مؤسسة مرموقة تُعنى بالأدب والثقافة بجدية واستمرارية.
وكتارا أصبحت، في وقت قصير نسبيًا، إحدى المؤسسات الثقافية القليلة التي تكرّس حضور الأدب العربي بجميع أجناسه، وتفتح أمام الكتّاب آفاقًا جديدة للنشر والانتشار. إنها لا تكرم الأسماء فحسب؛ لكنها تمنح أيضًا للنصوص حياة جديدة، وتعيد الاعتبار لسلطة السرد عن طريقة النشر والترجمة إلى لغات أجنبية، في زمن باتت فيه الساحة الأدبية بحاجة إلى مؤسسات داعمة تُؤمن أن الثقافة ضرورة في حياة المجتمعات.
فوزي عن قصة (وهج اللؤلؤ) كان بمثابة لحظة استثنائية، جمعت بين الاعتراف بجمالية النص وبين الانتماء إلى فضاء عربي يُعيد للقصة القصيرة اعتبارها في زمن تطغى عليه السرعة وتغيب فيه التأملات السردية العميقة.
“وهج اللؤلؤ” نسيج إنساني متين .
* تحاكي قصتك مفهوم الإخاء كما جاء في محور الجائزة… كيف صغت هذا المفهوم داخل نصك؟
هذه القصة تحديدًا كانت ثمرة تجربة فنية وإنسانية ممتدة، وفوزها يعني أن تلك التجربة وجدت صدى لدى لجنة التحكيم والقراء.
في قصة “وهج اللؤلؤ”، لم يكن الإخاء مجرد علاقة عابرة بين شخصيتين اجتمعتا على ظهر قارب؛ بل كان نسيجًا حيًّا نسجته الذاكرة الجماعية لمدينة البدع، حيث تنمو القيم مثلما ينمو اللؤلؤ في عمق البحر، في صمتٍ، لكن بثباتٍ وجمال .
في هذه القصة، الإخاء لم أجعله شعارًا؛ بل رسمته كمحارة قاسية، لمّعتُها عبر التجربة، والبحر، والدموع، حتى أضاءت بلؤلؤة التسامح. اخترت أن أجعل الإخاء دربًا مليئًا بالتحدّيات؛ كي يكون بلوغه جديرًا، وصورته أكثر صدقًا في قلوب القرّاء.
القيم الإنسانية جذر القضايا ومصدر الأدب الحقيقي .!
* في قصصك تميل إلى الاشتغال على القيم الإنسانية أكثر من القضايا الآنية؟ لماذا؟
لأنها الجذر الأعمق الذي تَنبُت منه تلك القضايا نفسها.
أؤمن أن الإنسان هو جوهر الأدب، وما يمر به من مشاعر، صراعات، وتحولات، هو ما يمنح القصة شرعيتها واستمراريتها. القضايا الآنية مهمة؛ لكنها كثيرًا ما تكون آنية فعلًا، مرتبطة بسياق سياسي أو اجتماعي سريع التغيّر. أما القيم الإنسانية – كالحرية، والخوف، والحب، والندم، والبحث عن المعنى – فهي أكثر رسوخًا، وأكثر قدرة على تجاوز الزمن والجغرافيا.
رحلة الانبهار بالشكل الي الصدق العميق …!
* تعد من الأصوات الشابة في ليبيا والبارزة… كيف تصف تطوّرك ككاتب حتى اليوم؟
هي رحلة لا تزال مستمرة، مليئة بالتجريب، وإعادة النظر، والبحث عن صوت أكثر صدقًا.
منذ بداياتي كنت مدفوعًا بشغف السرد، لا بغاية الوصول إلى منصّة أو لقب؛ بل بدافع داخلي لفهم العالم من حولي.. وهذا ما جعلني دائم السفر والتنقّل… لقد كتبت القصة، ثم اقتربت من الرواية والمسرح الذي أبحرت فيه كثيرًا، وفي كل مرحلة أشعر بأن الكتابة تُشكّلني بقدر ما أُشكّلها.
في البداية كنت مأخوذًا باللغة، بالشكل، بمحاولة إثبات الذات على مستوى التقنيات والأسلوب. ثم شيئًا فشيئًا بدأت أُدرك أن الجوهر أهم من الزخرفة، وأن البساطة العميقة أصعب من التعقيد الظاهري.
تعلّمت أن الإصغاء إلى الشخصيات أهم من فرض أفكاري عليها، وأن الصدق مع النصّ يتطلّب شجاعة مستمرة في الحذف والمراجعة والتأمل.
اليوم، أكتب بعين أكثر وعيًا، لا أسعى إلى الإبهار بقدر ما أبحث عن الأثر. أدرك أن الكاتب لا ينضج دفعة واحدة، فهو في كل عمل جديد، وفي كل محاولة صادقة يتطوّر .
الأدب الليبي والنهوض من الظل …!
* المشهد الأدبي الليبي أكثر حضورا عربيا اليوم… ما الذي تغير؟
نعم، هذا لم يأتِ من فراغ؛ بل هو نتيجة تراكمات وجهود فردية وجماعية بدأت تؤتي ثمارها في السنوات الأخيرة.
ما تغيّر، برأيي، هو أن الصوت الليبي بدأ يخرج من عزلته، ويتحرّر من الصور النمطية والانطباعات السطحية التي كانت تختزله في زوايا ضيقة. هناك جيل جديد من الكتّاب والكاتبات، لا يحمل همّ التعبير فقط، بل يمتلك أدوات فنية وجمالية قادرة على منافسة الأسماء العربية البارزة.
كما أن التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها ليبيا منذ 2011، رغم ما فيها من ألم وتمزّق لم نرغب في ظهوره؛ فأنها فرضت على الأدب أن يكون أكثر صدقًا وأكثر انخراطًا في الأسئلة الكبرى للهوية، والانتماء، والحرية. هذه التغيرات، أخرجت نصوصًا عميقة وصادقة، لم تعد تخاف من المواجهة أو من كشف العتمة.
الجوائز الأدبية دفعة معنوية .
* هل تعتقد أن الجوائز الأدبية كافية لصناعة اسم لكاتب شاب؟ أم أن الاستمرارية تأتي من عوامل أخرى؟
من الجيد أن يحظى الكاتب بجائزة، فهي تمنحه دفعة معنوية، وتسلّط عليه الضوء، وربما تُسهّل له طريق النشر والوصول إلى القرّاء. لكنه يجب أن يعلم بأن الكتابة هي فعل مستمر يتطلّب مثابرة وتراكمًا، فالاسم الحقيقي لأي كاتب يُصنع من خلال الاستمرارية، والصدق مع النص، والقدرة على التجدد، والكتابة خارج منطق التوقعات أو الرغبة في الإعجاب السريع… القارئ اليوم ذكي، ويتابع تطوّر الكاتب، ويعرف من يكتب بدافع حقيقي، ومن يكتب بحثًا عن الجوائز فقط.
المسرح ..شغف الطفولة ومشروع حياة .
* رحلتك مع الكتابة المسرحية ما الذي دفعك إلى اختيار هذا المجال تحديدا؟
رحلتي مع الكتابة المسرحية بدأت من شغف طفولي أصيل بهذا الفن، قبل أن تتحوّل مع الوقت إلى خيار إبداعي واحترافي… منذ الصغر كنت مأخوذًا بسحر المسرح؛ ذلك الفن الحيّ الذي يجعل الكلمة جسدًا، والصوت فعلًا، والخيال واقعًا يتحرّك على الخشبة. كنت أذهب إلى العروض القليلة التي تتاح، وأتابع بشغف كل ما يتعلق بالمسرح، رغم أنني لم أكن أدرس هذا التخصص في البداية، بل كنت في مسار علمي تمامًا خلال دراستي الجامعية؛ لكن الشغف لا يعرف القيود، فخلال تلك المرحلة، شاركت في عدد من الأنشطة المسرحية، واشتغلت على مشاريع متعددة، كمخرج ومساعد مخرج، وأحيانًا كمعدّ نصوص وعديد من التخصصات المسرحية… ومع الوقت، أدركت أن هذا ليس مجرد ولع مؤقت؛ بل مشروع حياة… وهذا ما دفعني لاحقًا إلى السفر إلى أوكرانيا لدراسة الإخراج المسرحي بشكل أكاديمي؛ حيث فتحت لي تلك التجربة آفاقًا فنية وفكرية واسعة، وعرّفتني على مدارس مسرحية متعددة، منحتني أدوات جديدة للرؤية والتعبير.
وخلال عملي السابق في الصحافة الثقافية؛ وجدت نفسي أكتب مقالات نقدية، أقارب فيها الأعمال المسرحية من منظور تحليلي، فكان النقد المسرحي محطة مهمة لفهم النص من الداخل، والتعامل مع العرض ككلّ متكامل… لكن حين تفرّغت للكتابة، وابتعدت عن ضغط المواعيد الصحفية، وجدت نفسي مدفوعًا بقوة نحو تأليف النصوص المسرحية. وكأن كل تلك المراحل كانت تمهيدًا لهذا المسار.
المسرح بالنسبة لي ليس مجرد جنس أدبي، بل فضاء حيّ، ينبض بالأسئلة، وبالقدرة على خلق التوتر الحيّ بين الكاتب والمتلقي. هو الفن الذي يجعلني أرى الكلمة وهي تنبض، تتنفس، وتصارع على الخشبة.
مسرحية “المران “قضية إنسانية ملحة .
* في مسرحيتك “المُرّان” تناولت قضية الهجرة غير الشرعية، لماذا اخترت هذا الموضوع؟
لم يكن اختياري لموضوع الهجرة غير الشرعية قرارًا عابرًا؛ بل جاء من شعور عميق بالمسؤولية تجاه قضية إنسانية تمسّني كمواطن وككاتب على حدّ سواء.
الهجرة، كما نعيشها في المنطقة، هي ليست مجرد أرقام أو تقارير إعلامية، لكنها وجوه، وأحلام، ومآسي حقيقية تتكرّر كل يوم… رأيت في المسرح الوسيلة الأصدق والأكثر إنسانية لتقديم هذا الواقع… فأنا اعتبرها حكاية قادرة على لمس الوجدان وطرح الأسئلة العميقة حول معنى العبور، والضياع، والانتماء.
باختصار؛ كتبت “المُرّان” لأنني شعرت أن الصمت تجاه هذه التراجيديا اليومية سيكون خيانة، ولأن المسرح هو مكاني الطبيعي لمساءلة هذا الواقع، ولتسليط الضوء على ما يُراد له أن يُنسى في العتمة.
الأدب كحارس للإنسانية وسط الحرب .
* في روايتك “رسائل الفردوس” التي تناولت الحرب من منظور إنساني، كيف يمكن للأدب أن يحارب موت الإنسان أمام ماكينة السياسة والحروب؟ وهل الأدب مسؤول فعلا عن إنقاذ ما تبقى من إنسانيتنا؟
كتبتها وأنا مدفوعًا بأسئلة وجودية أكثر من كونها سياسية… كيف يمكن أن نحبّ وسط الموت؟ كيف نحتفظ بذواتنا في عالم يُراد لنا فيه أن نكون مجرد أدوات لهذه اللعنة البشرية التي تسمى الحرب؟!
اخترت في رواية أن أقدّم الحرب من الداخل، عبر مراسلات بين شخصيات تبحث عن معنى، وعن خلاص، وعن ما تبقى من كرامة وذاكرة وسط الخراب.
ربما الأدب لا يستطيع أن يوقف الحروب؛ لكنه يستطيع أن يُذكّرنا بمن سقط فيها، وبمن بقي يحمل ندوبها. إنه مساحة لإنقاذ ما تبقى من الإنسان، من المشاعر، من الأمل، في وقت تنشغل فيه السياسة بالخرائط والمكاسب. وربما لا يُنقذنا من الموت؛ لكنه يُنقذنا من التحوّل إلى قتلة، أو إلى لا مبالين.
هو صرخة ناعمة في وجه الصخب، وهو الوثيقة الوحيدة التي قد تنجو حين تنسى الدول والأنظمة أن الإنسان كان هناك مع حلمه السامي…
الكتابة مواجهة واقعية الهروب منها …!
* هل ترى في الكتابة حالة هروب من الواقع أم مواجهة حقيقية معه؟ وهل تعتقد أن الكاتب يظل سجينًا لواقعه حتى في أكثر نصوصه خيالا؟
“أكتب لأنني لا أستطيع تحمّل الحقيقة وحدي”… أورهان باموق.
هذه العبارة تختصر الكثير من علاقتي بالكتابة. فهي ليست بالنسبة لي حالة هروب من الواقع، بل محاولة لفهمه، لاحتوائه، وربما لمواجهته بطريقة أكثر إنسانية وعمقًا مما تتيحه الحياة اليومية.
نعم، نكتب أحيانًا هربًا من القبح، من القسوة، من العجز… لكن هذا الهروب ليس انسحابًا، بل انتقالًا إلى مساحة نمتلك فيها السيطرة على شكل الحكاية، وعلى نهاية مفتوحة لا تُفرض علينا بقوة الواقع.
الكتابة مواجهة ناعمة لكنها شرسة من الداخل… فنحن نواجه بها أنفسنا قبل أن نواجه العالم، ونُقلّب بها الأسئلة التي نخشى طرحها بصوت مرتفع في الواقع. حتى عندما نكتب الخيال، فإننا لا نفعل ذلك بعيدًا عن واقعنا؛ بل نحمل الواقع في التفاصيل، في اللغة، في الهاجس، وربما في الألم الذي نحاول أن نغلفه بصورة أكثر احتمالًا.
أما عن سؤال السجن داخل الواقع، فأعتقد أن الكاتب لا يستطيع الانفصال عنه تمامًا، حتى في أكثر نصوصه خيالًا. الواقع دائمًا يتسرّب في المخاوف، في البُنى النفسية للشخصيات، في اللغة نفسها… لكن الفرق بين كاتب وآخر هو في طريقة تحويل هذا الواقع إلى مادة جمالية، رمزية، أو وجودية، بدل أن يظل مجرّد تسجيل حرفي للأحداث.
الكاتب، في النهاية، ليس منفيًا من الواقع، بل هو شاهد مشاكس، يُضيء الزوايا المعتمة، ويصوغ الأسئلة التي لا يجرؤ كثيرون على مواجهتها.