منصة الصباح

لِقاءٌ وَعِتابْ… سُؤالٌ وَاسْتِغْرابْ

   بعد غياب دام أكثر من خمس عشرة سنة، جمعتني الصدفة بصديق وزميل دراسة قديم في احدى المناسبات الاجتماعية، تعانقنا، تبادلنا ذكريات ومواقف مقاعد الدراسة… جاء ذكر الكثير من الأسماء في تلك الجلسة.. زملاء، معلمين، موظفين، وحتى أولياء الأمور. ولكن في لحظة عتب وبنبرة استغراب، قال لي: لقد تغيرت كثيراً يا صديقي… لم تعد علي الذي نعرف).

  تأملت كلماته، وابتسمت بهدوء، ثم قلت: طبيعي يا صديقي أن أتغير، فسبحان الذي يغير ولا يتغير.

     لكن عبارته ظلت ترن في رأسي، لماذا يتعامل البعض مع التغير وكأنه شيء معيب وخطأ؟ أو كأنه خيانة لنسخة ماضية من أنفسنا أحبوها؟ لماذا ينتظر من الإنسان أن يظل كما هو، رغم ما تمر به حياته من تحولات وتجارب؟

الإنسان كائن متغير بطبيعته، هذه ليست نقيصة بل سنةً إلهيةً، فنحن نولد صفحة بيضاء، ثم ترسم الأيام علينا خطوطها، نواجه الفرح والحزن، النجاح والفشل، الأمل والخذلان، الوفاء والخيانة، الصعود والسقوط، اللقاء والافتراق، القوة والضعف، والصدق والتزييف… فكل هذه المتناقضات هي التي تشكل ملامحنا، وتعيد صياغة أنفسنا بمرور الزمن…  فكل موقف يترك فينا أثراً، وكل تجربة تضيف لنا شيئاً أو تتنزع منا شيئا… فكيف يطلب منا بعد كل هذا ألا نتغير؟

     في المقابل، فإن الله سبحانه وتعالى وحده الثابت الذي لا يتغير، كامل في صفاته، لا يطرأ عليه نقص أو تبدل…  أما نحن البشر، فالنقص فينا جزء من طبيعتنا، والتغير جزء من نضجنا ونمونا وتطورنا.

     لا أنكرها، نعم، لقد تغيرت… ولكن تغيري لم يكن عشوائيا ولا طارئاً، بل كان نتيجة سنوات من العمر والدراسة والخبرات والتأمل والمراجعة… مررت بما يمر به أي إنسان في هذه الحياة، أخطاء تعلمت منها، علاقات تركت أثرها، كتب ومقالات قرأتها، مواقف صنعتني، وأخرى كسرتني ثم أعادت تشكيلي… لأصبح ما تراه أمامك يا صديقي.

نعم، تغيرت، فلم أعد ذلك الشاب المندفع الذي تحكمه ردود الأفعال، أصبحت أكثر سكينة وأكثر وعياً، أعرف متى أتكلم ومتى أصمت… ومتى أقترب ومتى أبتعد، فأصبحت أكثر حرصاً على نفسي، وعلى من يستحق وجودي.

   المؤلم أن بعض الناس يربطون حبهم لنا بنسخة قديمة منا، يرفضون أن يروا التحول والتغير فينا وإن كان إلى الأفضل. لكن الحقيقة أن الحياة لا تتوقف، ومن لا يتطور يتراجع.

     التغير الإيجابي ليس خيانة للذات، بل هو احترام لها… هو أن ترى نفسك بوضوح، أن تعترف بعيوبك، أن تحاول إصلاحها، أن تخرج من ضيق العادة إلى اتساع الوعي…. هو أن تصبح أكثر قرباً من نفسك ومن حقيقتك، وأكثر فهماً لما تريده وتستحقه.

 صديقي الذي قال لي إنني تغيرت، لم يكن يقصد الإساءة، وربما لم يعي أن العتب الذي وجهه لي، كان يجب أن يقال بصيغة إعجاب لا استغراب والاستهجان، لأن البقاء على ذات التفكير، ونفس ردود الأفعال، ونفس الرؤية للحياة، بعد كل هذه السنوات، هو ما يثير القلق والاستغراب، لا العكس.

     في النهاية، أقول لكل من تغير: لا تخجل من نضجك، ولا تعتذر عن تطورك، ولا تفسر مساعيك لأن تكون أفضل…  سر في طريقك بثقة، فالتغير للأفضل هو أعظم انتصار يحققه الإنسان على نفسه.

د. علي عاشور

شاهد أيضاً

نسبة طلاق مرتفعة… أم نسبة زواج منخفضة؟

أحلام محمد الكميشي تتناقل صفحات فيسبوك أخبارًا عن ارتفاع نسبة الطلاق في ليبيا حديثًا، ويتفاعل …