د. محمد أحمد الشحاتي*
يثار حاليًا جدل واسع بشأن إعلان شركة البريقة لتسويق النفط عن بدء بيع الضمان المالي لرهنية الاسطوانات الجديدة بسعر مئتين وأربعين دينارًا للأسطوانة وهو مبلغ تم تحديده بحسب الشركة بالتنسيق مع وزارة الاقتصاد.
لكن من الضروري التوقف عند الطبيعة القانونية لهذه المعاملة إذ إن الشركة من ناحية محاسبية لا تبيع الأصل أي الاسطوانة لأن الاسطوانة مسجلة كأصل مملوك لها في دفاترها بل تبيع للمستهلك حق استخدام الاسطوانة بينما يباع الغاز الموجود داخلها كسلعة استهلاكية وبذلك يمكن اعتبار القيمة المحصلة للأسطوانة رهنية أو ضمانًا ماليًا يقدمه المستهلك للشركة مقابل استخدام وعاء الغاز.
عند شراء الغاز في اسطوانة فإن المستهلك لا يشتري الاسطوانة ذاتها بل يدفع ثمن الغاز إلى جانب رهنية مالية مقابل استخدام الاسطوانة وهي لا تعد ملكًا له وهذا النظام معمول به في عدد من الدول حيث تبقى ملكية الاسطوانة للشركة وتُعاد عند إيقاف الخدمة أو تغيير المزود وبالتالي فإن تحميل المستهلك كامل تكلفة الاسطوانة يتعارض مع الطبيعة القانونية للعلاقة لأنه لم تُنقل إليه الملكية والمنفعة الجوهرية من استخدام الاسطوانة تعود في الأصل للشركة التي تحتفظ بحق إعادة تعبئتها وتداولها مرارًا.
وبالرجوع إلى مبادئ القانون التجاري نجد أنه يميز بين المنتج الاستهلاكي كالغاز ووسيلة إيصال المنتج كالاسطوانة أو الخزان فإذا لم تُنقل ملكية الوسيلة فإن تحميل المستهلك تكلفتها الكاملة دون مقابل قانوني واضح كعقد إيجار أو رهنية موثقة يعد إخلالًا بتوازن العلاقة التعاقدية ويمكن أن يفسر قانونيًا على أنه إثراء بلا سبب.
في النماذج الدولية يدفع المستهلك في فرنسا رهنًا للاسطوانة لا يتجاوز 30 يورو ويُسترد عند إعادتها وفي الهند تكون الاسطوانة مدعومة من الحكومة ويكتفي المستهلك برسوم تأمين رمزية مع بقاء الملكية للدولة وفي ألمانيا يوجد خيار شراء الاسطوانة أو استئجارها برهن يُسترد لاحقًا أما في مصر والأردن فتعامل الاسطوانة كملكية شبه دائمة للمستهلك لكنها مدعومة جزئيًا بينما الغاز هو السلعة الفعلية.
بالتالي في معظم الأنظمة الدولية يُفترض أن يحق للمستهلك استرداد الرهنية إذا توقف عن استخدام الاسطوانة أو غادر الدولة أو اتجه لمصدر بديل للطاقة لكن في الواقع المحلي كثيرًا ما يلجأ المستهلك إلى بيع الاسطوانة في السوق المفتوحة بأسعار أعلى من قيمتها الرسمية بسبب غياب آلية رسمية واضحة لاسترداد الرهنية ووجود فرق كبير بين ما تفرضه الشركة وسعر السوق السوداء الذي وصل إلى 600 دينار للأسطوانة.
تواجه الشركات تحديات مالية حقيقية في ما يخص تجديد الاسطوانات المُهلكة وتوسيع المخزون لمواكبة الطلب المتزايد لكن من غير المقبول لا قانونيًا ولا اقتصاديًا أن تسعى بعض الشركات إلى تحميل المستهلك مباشرة تكلفة هذه الأصول بدلًا من استخدام الفائض التشغيلي المتحقق لديها أو إدراج هذه التكاليف ضمن تكلفة الخدمة بشكل غير مباشر ومتدرج.
في أبو ظبي تقوم شركة أدنوك ببيع الاسطوانة الجديدة بسعر يقارب مئة وخمسة عشر دولارًا في حين أن تكلفة إنتاجها لا تتجاوز تسعين دولارًا أما سعر تعبئة الغاز فيصل إلى ثلاثين دولارًا وهو ما يعكس السعر العالمي لغاز البترول المسال هذا يختلف عن سياسات في الخليج مثل الكويت حيث لا تتجاوز تكلفة الاسطوانة 30 دولارًا وسعر التعبئة 4.5 دولار.
الفرق بين هذه النماذج يرجع إلى انتشار غاز المدينة في أبو ظبي مما قلل من استخدام اسطوانات الغاز فتكلفة الغاز في المنازل في أبو ظبي عبر الاسطوانات تبلغ 38 دولارًا شهريًا بينما عبر غاز المدينة تبلغ 10 دولارات وفي مصر تبلغ تكلفة الاسطوانة 6 دولارات مقابل 5 لغاز المدينة.
غاز المدينة يعتمد غالبًا على الغاز الطبيعي بينما الغاز في الاسطوانات هو غاز بترول مسال مما يفسر فارق التكلفة
هذا ويعد دعم الغاز المنزلي ضرورة صحية واجتماعية في الدول النامية لأنه يمكن الأسر ذات الدخل المحدود من استخدام مصدر طاقة نظيف وآمن للطهي مما يقلل من اعتمادها على بدائل ضارة مثل الحطب أو الفحم أو الكيروسين وهذه البدائل تطلق ملوثات خطرة داخل المنازل مما يؤدي إلى أمراض تنفسية مزمنة خاصة لدى النساء والأطفال وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن تلوث الهواء داخل المنازل يتسبب في ملايين الوفيات سنويًا في الدول النامية لذا فإن دعم الغاز لا يقتصر على تخفيف العبء المالي بل يعد استثمارًا مباشرًا في صحة المجتمع والوقاية من أعباء صحية واقتصادية أكبر.
نعود إلى السؤال الأساسي هل يجوز لشركة مثل البريقة حتى ولو بدعم حكومي أن تسترد تكلفة الأصل من المستهلك مع غياب أي بديل في السوق والإجابة المنطقية والقانونية استنادًا إلى ما سبق هي أن ذلك لا يجوز لا قانونيًا ولا أخلاقيًا خاصة في ظل غياب المنافسة وافتقار المواطن الليبي لخيارات بديلة بل يفترض أن تلتزم الشركة كونها شركة عامة بتجديد أصولها من فائض أرباحها لا أن تُحمّل المستهلك عبئًا غير عادل.
وقد يقول البعض إن هذا الفائض إذا لم تستفد منه الشركة فستستفيد منه السوق السوداء حيث تُباع الاسطوانة بما يصل إلى 600 دينار لكن هذا منطق مرفوض فمعالجة السوق السوداء لا تكون بمجاراة أسعارها بل بوضع نظام توزيع عادل وشفاف يضمن العدالة للمستهلك والكفاءة الاقتصادية للدولة.
في النهاية المواطن الليبي يدفع ثمن فشل التخطيط في تلبية حاجاته الأساسية من الطاقة ولا يمكن أن يُحمّل فوق ذلك تكاليف إضافية تفتقر إلى العدالة والمنطق..
* خبير اقتصادي..
– “المقال من الصفحة الخاصة للدكتور الشحاتي”..