عبدالسلام الغرياني
أضحت منصة سابستاك (Substack) – المنصة الأمريكية التي تأسست في سان فرانسيسكو عام 2017 كمساحة لنشر النصوص المدعومة باشتراكات القراء – ملاذًا عالميًا للكتّاب الذين يبحثون عن مساحة لنشر أفكارهم غير التقليدية ومشاريعهم التجريبية التي ترفضها وسائل النشر التقليدية . بينما تزدهر هذه الظاهرة في العالم الغربي، يواجه المشهد الأدبي العربي تحدياتٍ جوهريّة تبرز الحاجة الماسة لمنصات مماثلة تُحرّر الإبداع من القيود وتفتح آفاقًا جديدة.
تحديات ثلاثية وكُتّابٌ في الهامش:
في العالم العربي، تُعيق عقبات ثلاثية طريق الكتّاب: فاحتكار دور النشر الكبرى في مراكز ثقافية محددة مثل القاهرة وبيروت يقصي الأصوات الناشئة من الأطراف كالمغرب العربي والخليج. كما تعاني الأقلام الجديدة من صعوبة الوصول إلى الجمهور، بينما تفرض الرقابة الذاتية والمؤسسية قيودًا على التجريب الأدبي. هذه المعضلات تحبس إبداعاتٍ مهمة في الأدراج، خاصة تلك التي تتناول مواضيع غير تقليدية أو تنتمي لأنواع أدبية طليعية.
محاولات عربية،بذور تحتاج دعمًا :
ظهرت محاولات عربية واعدة لمحاكاة نموذج سابستاك مثل منصتي “منصات” و”زَدني”، لكنّها ما تزال محدودة التأثير والانتشار. يحتاج الكتّاب العرب إلى فضاء رقمي يدعم التمويل المباشر من القراء عبر اشتراكات شهرية، متجاوزًا عقبات التوزيع الورقي ومشكلات حقوق النشر. كما يفتقدون مساحاتٍ آمنةً لنشر نصوص “غير قابلة للتسويق” تجاريًا – كاليوميات الشخصية العميقة، والنقد الثقافي الجريء، والمختبرات السردية التجريبية. والأهم من ذلك، غياب منصاتٍ قادرة على بناء مجتمعات قرائية حول تخصصات أدبية فرعية كالخيال العلمي العربي أو القصة القصيرة جدًا.
عقبات بنيوية، من التمويل إلى الرقابة:
تعترض هذه الرؤية تحديات بنيوية عدّة، أبرزها ضعف ثقافة الدفع الإلكتروني للخدمات الثقافية في المنطقة، وافتقار المنصات العربية لأدوات احترافية لإدارة المحتوى المدفوع. كما يظل سيف الرقابة مسلطًا على المحتوى الجريء في مجالات السياسة والجندر والدين، مما يحدّ من حرية التعبير.
نجاحات ناشئة، إشارات ضوء في النفق:
رغم هذه العقبات، تبرز نجاحات عربية تستحق التوسع والدراسة. فتجربة مدونة “ضفة ثالثة” التي تحولت إلى مجلة ثقافية مدعومة باشتراكات القراء تقدم نموذجًا ملهمًا. كما أظهرت تجارب مثل “الرواية التسلسلية” للكويتي سعود السنعوسي على إنستغرام إمكانية الوصول للجمهور مباشرةً، رغم محدودية الأدوات مقارنةً بمنصة متكاملة مثل سابستاك.
حل استراتيجي لأزمات النشر:
تمثل المنصات الرقمية المستقلة حلاً استراتيجيًا لأزمات النشر العربية المتجذرة. فهي قادرة على كسر الاحتكار الجغرافي للثقافة عبر دعم أصوات المهمّشين من الأرياف والمناطق النائية، وخلق اقتصاد مستدام للإبداع بعيدًا عن ريع المؤسسات الرسمية المتذبذب. كما يمكنها إحياء تقاليد المجلات الأدبية المستقلة التي ازدهرت في بيروت وبغداد في صيغة رقمية معاصرة، حيث كانت هذه المجلات تُعدّ حاضناتٍ للتجريب الأدبي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
ثورة إبداعية تنتظر منصّتها:
بينما تعيد سابستاك – المنصة الأمريكية التي حوّلت “الغرابة الإبداعية” إلى قيمة ثقافية – إحياء روح الإبداع الحر في الغرب، ينتظر الأدب العربي ثورته الرقمية. ففي المنطقة التي تنجب باستمرار أدباء متميزين ينتجون نصوصًا تجريبية تبحث عن مساحتها – تصبح الحاجة لمنصة داعمة للـ”غرابة الإبداعية” ضرورة ثقافية. قد تكون الثورة القادمة في أدبنا منصةً رقميةً تحول كتابات الهامش إلى تيارٍ إبداعيٍّ جديد، مصداقًا للقول: “الكتابة الحرة تحتاج أوعية حرة، وأوعيتنا التقليدية تشققّت”.