منصة الصباح

العنف…بين السلوك الغريزي والثقافة المكتسبة (1/3 )

بقلم / سليم يونس

هي صادمة بكل المعايير الدينية والإنسانية والأخلاقية تلك المشاهد الدموية المروعة التي تعرضها بعض الجماعات المتشددة عبر وسائل الإعلام, ترويجا لما تعتبره «صحيح» فكرها, ولأنها كذلك فإننا نعتقد أنه لا يمكن لمن يمتلك حدا أدنى من الإحساس الآدمي كونه إنسانا, إلا أن يخجل كإنسان; من هذا المنحى الدموي الذي تتبناه هذه المجموعات, تنفيذا لما يحملونه من تفسير فكري تعسفي للنص الديني, يقوم على تكفير الآخر مقدمة إلى نفيه ماديا, لمجرد أن وهمهم صور لهم أن هذا الآخر مناقض لهم.

ضد الإنسانية

وإذا كانت هذه المشاهد الوحشية من نحر وحرق وتصفية قد بررها عقل ما يزال يعيش في شرنقة الماضي البعيد, فإنه من غير المقبول بالمعنى الإنساني أن يستمر هذا البعد الحيواني الوحشي في شخصية وسلوك هذا البعض, رغم التطور الحضاري البشري بأبعاده الثقافية والفكرية والاجتماعية, فيما هو يُصِرُّ على أن يبقى محكوما وحاكما للآخرين, وفق تلك الرؤية غير الآدمية.

وإنه لمجاف لكل القيم أن تظهر قيم العنف سواء في بعده المادي أو المعنوي لدى هؤلاء; في وقت قطعت فيه الإنسانية أشواطا بعيدة في محاولاتها المتواصلة لأنسنة الحياة البشرية, والقطع مع كل التراث البشري الذي رافقه فيه العنف بمختلف تجلياته; خاصة في جانب العنف غير المشروع بكل أشكاله.

وعلى ضوء انتشار تبني هذه الظواهر في أكثر من مكان في العالم, مع تنوع المشارب الأيديولوجية للقائمين عليها, يصبح السؤال المركزي هنا هو: كيف يفترض لإنسان سوي على صعيد الفرد أو المجموعة, أن يبرر هذا السلوك الوحشي وغير الآدمي, بل ويؤدلج البعض هذا السلوك برده إلى النص الديني, فيما يقف وراء سلوك آخرين بعدا فكريا; أو حتى وهم التفوق العرقي?

تبرير العنف

مع أن العنف مرفوض ومدان إنسانيا ومن أية جهة أتى, إلا أن العنف الذي يتكئ على الدين, هو أكثرها خطرا; كون ممثلوه يعتبرون أنهم مكلفون بتنفيذ أحكام الله فيمن يعتبرونهم «كفارا», وبالطبع كل ذلك; وفق قراءتهم المجتزأة والقسرية وغير الصحيحة للنص الديني.

هؤلاء بما يقومون به من ترهيب جراء فظائعهم ضد البعض, فإنهم ينشرون شكل مواز ومتعمد عبر هذا العنف, سياسة استلاب وعي من يستهدفوهم بخطابهم, من أجل دفعهم باتجاه تبني هذه الثقافة المفارقة للدين في عدله وسماحته, ولكل قيم التحضر والتجربة الإنسانية, التي تجاوزت كل ما من شأنه أن يمس كرامة وحق الإنسان في أن يعيش حرا من أي إكراه مادي أو معنوي.

هذا العنف الوحشي لا يمكن نسبته إلى إنسان سوي, كونه في تجلياته المختلفة سلوكاً يحط من قيمة الإنسان ليعيده إلى درجة أدنى من السلوك البشري.

وفي تأصيل هذا العنف بكل هذه الدموية والبعد غير الآدمي فيه, فإن مقاربتي   تتجه نحو اعتبار, أنه ربما يكون نتاج طاقة كامنة تعود لبعد غريزي لم يتم ضبطه; أو الفشل في «أنسنته», بحيث يصبح من السهل بروزه كلما جرى استدعاؤه بكل هذه الدموية والتوحش, وهذا الاستدعاء; هو بمثابة تظهير لهذه الغريزة من حالة الكمون; عبر ضخ هذه الثقافة غير الإنسانية, التي هي ثقافة للكراهية والعنف, كوعي مكتسب مشوه بالضرورة.

ولأن السلوك هو محصلة لحالة غريزية يحتويها الوعي المكتسب, فإننا نقدر أنه كلما زاد الحضور والوعي الثقافي الإيجابي تراجع السلوك السلبي, إلى أن يصل حدا يمكن السيطرة عليه وتحييده, ويُبطِل فاعليته, حتى وإن لم يجرى استئصاله تماما.

مصادر العنف

في محاولة لتفكيك هذا السلوك غير الإنساني الذي ينتج كل هذه البشاعة, فقد تضاربت الآراءُ حول مصادر هذه السلوك, بين من يقول بغريزية العنف (لورنتس), أي أنه مكون من مكونات شخصية الفرد, وبين من يقول بأنه صفة مكتسبة (سكينِّر), أي أنها نتاج تربيته وثقافته وتجربته الحياتية.

وتعود جذور هذا الخلاف الجوهري في تأصيل سلوك العنف, إلى الخلاف بين المنظِّرين والعلماء منذ عصر النهضة; ثم إلى الخلاف بين المناهج التقدمية, التي كانت تقول إن “الرذيلة” نتاج للظروف الاجتماعية, وبين المناهج المحافظة, التي حاولت أن تثبت أن التنافس بين البشر يعود إلى غريزة متأصِّلة لصالح كمون العنف في أعماقهم. (1)

ويعرِّف البعض العنفَ في معناه العام; على أنه كلُّ خطابٍ أو فعلٍ مؤذٍ أو مدمِّرٍ يقوم به فردٌ أو جماعةٌ ضد أخرى, ويميّز العلماء بين نوعين من العنف: «العنف الشرعي» بوصفه حقّاً للسلطة المقبولة اجتماعياً, كي تسيطر على «العنف غير الشرعي» المهدِّد للمجتمع, وغير المصدّق عليه اجتماعياً, ويشير هذا التقسيم للعنف إلى التعارض بين «الحق الاجتماعي» الذي يقره  القان الاجت إلى المبادئ والحجج الأخلاقية.

ويُعتبر الموروث الديني مصدراً بارزاً من مصادر تشريع العنف المقدس, ومسوّغات استخدامه من قِبل بعض الأفراد والجماعات الدينية والجهادية والتكفيرية, باعتباره جزءاً أصيلاً من عقيدتهم وتاريخهم.

حتى أنه يمكن القول إنّ بعض الأفراد الذين وصلوا إلى عتبات العنف المرتفعة جداً يتصرفون وكأنهم مبرمجون وراثياً, ليكونوا عني من غ شرّعه وهم الإيمان الديني, أو التقييم المعرفي للعنف القائل: إنّ العنف هو تعبيرٌ عن الغضب والاحتجاج والإحباط, وهو وسيلةٌ مقبولة ومطلوبة لدفع المظلومية وتحاشي وقوع عنفٍ أعظم ولإصلاح المجتمعات وحسم الصراع بين الخير والشر, الحق والباطل, الكفر والإيمان.

 

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …