إن تدهور العلاقات الإنسانية وما يغذيها من مشاعر الغيرة والحسد والغل والحقد والكره ليست هذه مشاكل اجتماعية أو أخلاقية فقط ، بل هي أمراض سلوكية خطيرة ، وبالضرورة لها آثارها السلبية على الصحة النفسية والعقلية وتنعكس بقوة على السلام الاجتماعي والتماسك الأسري ، وعلى عدالة وانصاف بيئات العمل والسكن والمعيشة ، وعلى كفاءة التنمية البشرية والاقتصادية ، لأن طبيعة هذه الأمراض السلوكية تؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس ، وتغذية الكراهية داخل الأسرة والزمالة والجيرة والمجتمع ، وتظهر أكثر في الدراسة والعمل عندما ينجح الفاشل بالغش على حساب المجتهد ، ويعين الضعيف والغير مؤهل ، ويُقدم الغير أكفاء على الكفاءات والخبرات ، ويتعاظم الغل وتشتد الاحقاد مع استمرار المظالم والتمييز والإقصاء وحرمان أصحاب الحقوق وذوي الكفاءات والقدرات ،
وبهذا تتولد الطاقات السلبية وتتحول إلى سلوكيات عدائية وانسحاب اجتماعي ، ومع تنامي الأنانية والمصالح الضيقة ، تتحول العلاقات من ألفة وترابط وشراكة وتعاون إلى تنافس سلبي وتناحر وتدمير للولاء والانتماء ، وتظهر الآثار السلبية على الصحة العامة وتنتشر الأمراض النفسية كالاكتئاب والقلق والتوتر والغضب والأرق والإرهاق والإجهاد المزمن ، والوسواس القهري ، وتزداد نسب التدخين بين فئات المجتمع وفي الجنسين وصغار السن ، وتعاطي المخدرات والكحول ، والافراط في الأكل والسمنة ، وهذا وذاك يؤدي للأمراض العضوية وضعف المناعة وأمراض القلب وضغط الدم والسكري واضطرابات الغدد والجهاز الهضمي وأمراض مختلفة ومتعددة ناجمة عن ذلك منها الجلطات الدماغية والسكتات القلبية والأمراض المناعية والمستعصية ، وبالضرورة ان تؤدي العلاقات المسمومة إلى العنف والاعتداءات ، والانتحار ، والتفكك الأسري ، وارتفاع معدلات الطلاق ،
وكذلك في بيئات العمل المسمومة تغيب روح المبادرة والابتكار والتميز والانتاجية ، ويستوي من يعمل ويجتهد بما هو عكس ذلك وأشر ، وتسمو الواسطة والمحسوبية والجهوية والتوجه ، على حساب المؤهل والخبرة والكفاءة والتخصص والأقدمية ، وتموت روح المنافسة الشريفة ، وتنتفي العدالة الوظيفية ، وتستند القرارات على الولاءات وليس على القدرات ، مما تسبب في هجرة الكفاءات والعقول ، وتزداد حالات الانسحاب والانزواء الداخلي ، ويتأكل الرأس المال الاجتماعي ، ويتضأل الاحترام والتقدير بين مكونات المجتمع ، ويعلو الجهل على العلم ، وتتعاظم وجاهة المال والفساد والنفوذ ، وينعكس كل ذلك على التنمية والعدالة والكرامة والأمان والاستقرار المجتمعي ، وتتحول القيم الإنسانية النبيلة والحياة الاجتماعية السوية الى غابة متوحشة ، يتحول الطب والتعليم لتجارة ، وتتحول التجارة إلى الغش والاستغلال والجشع والتدليس ، وتختفي الحماية الاجتماعية ، وتتسع الفجوات بين طبقات المجتمع ، وتستفحل الأمراض الاجتماعية والجسدية والنفسية ، وتتسع دوائر الفقر والمرض والجهل والبطالة وما يترتب عنهم ،
ولهذا يجب ايجاد الحلول اللازمة لحماية المجتمع والارتقاء به ، وتحقيق التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية ، وتحقيق العدالة والمساواة والحماية الاجتماعية ، ويتطلب ذلك إصلاح حقيقي في السياسات المؤسساتية ، وتعزيز العلاقات الاجتماعية الصحية الصحيحة ، وبناء بيئات آمنة نفسيا وعاطفيًا واجتماعيًا داخل الأسرة والمدارس والجامعات وأماكن العمل والبيئات المعيشية ، وتنمية الوعي الديني والقيمي والتربوي ونشر ثقافة التسامح والاحترام والتقدير والاعتراف بالآخر ، والاهتمام الأكبر والأكثر بالرعاية الصحية الشاملة ، وبالصحة النفسية والعقلية والاجتماعية ، والتوسع في خدمات المشورة والدعم النفسي والاجتماعي ، وتقليص الفوارق الاجتماعية ، ورفع شأن العدالة والحكمة ، والعلم والأخلاق ، والآداب والثقافة والنزاهة ، والولاء والانتماء للوطن والأمة .
إن الأمراض الاجتماعية والجسدية والنفسية من أخطر التحديات والتهديدات التي تدمر المجتمعات والأوطان ، نسأل الله السلامة..