وجهة نظـــر
بقلم / د.طه بعره – أستاذ القانون
من المعلوم بأن الميزانية العامة للدولة هي البرنامج السنوي لإيرادات ومصرفات الوزارات والمصالح العامة، والتي تقدر حسب الإمكانيات المالية المتاحة والمتوقعة، من أول يناير وحتى الحادي والثلاثين من ديسمبر.
هذه الميزانية لا تولد بين يوم وليلة، وإنما تمر بعدة مراحل وحلقات معقدة بين مكونات الدولة، غايتها الدقة والترشيد وتحقيق الأهداف، ولهذا تبدأ هذه الرحلة منذ شهر يونيو أي نصف السنة وتنتهي آخرها بولادة قانون للميزانية عن السلطة التشريعية.
تلك المسارات لم تكن صنيعة عرف أو اجتهاد، وإنما رسمها المشرع عبر القانون المالي للدولة ولائحة الميزانية والمخازن وتعديلاته، وقد حرص المشرع على رسمها بقانون وإصدار الميزانية العامة بقانون ليكرس مفهوم قدسية المال العام، ويتشارك في إنفاقه ملاكه الحقيقون وهم أفراد الشعب عن طريق من يمثلهم تشريعية وتنفيذيأ.
حقيقة ومنذ انقسام السلطة التشريعية للدولة الليبية في العام 2014م، وما تلاه من تشوهات وتعقيدات سياسية خارجة عن الإعلان الدستوري، وكافة القوانين الوضعية، لم يولد لدينا قانون للميزانية العامة للدولة، ولم ينفق لدينا دینار بشكل قانوني، وإنما صدرت ميزانيات ابتكر على تسميتها بالترتيبات المالية، كانت تشبه في أجزائها وأبوابها الميزانية، غير أنها تصدر بقرار وليس قانونا.
لا أحد يعلم كيف صنعت تلك الترتيبات، أي هل قدرت بناء على منشور وجه من وزير المالية إلى كافة الوزارات والمصالح والمؤسسات العامة الممولة من الخزانة العامة، مرفق به الجداول والبيانات المطلوبة من الموارد والنفقات لكل جهة من الجهات المشار إليها للسنة المالية التالية، وهل تلك الجهات تقدمت ببياناتها إلى إدارة الميزانية بوزارة المالية وقامت الأخيرة بتوثيقها ومراجعتها ومقارنتها بما عليه وضع كل الجهات خلال السنة والسنتين السابقتين، وهل صدر قرار من وزير المالية بتشكيل اللجنة المالية التي من المفترض أن تتولى مراجعة كافة ما تقدمت به تلك الجهات مع مندوبيها للوصول إلى تحديد تقديرات احتياجات كل جهة من الجهات، وهل قدمت هذه اللجنة تقريرها إلى وزير المالية قبل نهاية شهر أكتوبر من كل سنة، وهل وهل؟
المعلوم هو أن الدولة الليبية قد مرت بفترة اقتصادية سوداء أوقف خلالها إنتاج النفط الخام وتصديره، وتدنت فيها مصادر الإيرادات الحكومية الأخرى من الضرائب والجمارك والرسوم المحلية، واتسعت خلالها الفجوة بين السعر الرسمي للنقد الأجنبي والسعر الموازي إلى أكثر من عشرة أضعاف.
ثم شيئا فشيئا استعاد النفط إنتاجه، وسنت بعض الإصلاحات الاقتصادية التي ساعدت في تقليص الهامش في سعر النقد الأجنبي، وفتحت بابا جديدا من الإيرادات نظير فرض رسم على بيع العملة الأجنبية، يستتبع ذلك أن تعد الدولة ميزانية طموحة للعام 2020م، تراعي الاستمرار في برنامج الإصلاح الاقتصادي الحالي وتطويره وتعزيزه.
فبرنامج الإصلاحات الاقتصادية المشار إليه رغم أنه كان متواضعا جدا في محاوره الإصلاحية وإجراءاته، إلا أنه حقق آثارا إيجابية جيدة جدا، كان يفترض أن يواصل تحسينه والعمل على محاوره لمعالجة إشكالية أخرى، كإطفاء الدين العام، وخفض فاتورة مرتبات الوظيفة العامة، وإعادة هيكلة الجهاز الإداري والملاك الوظيفي، وتسوية ديون معاشات المتقاعدين، وديون علاوة الزوجة والأبناء، وتقييم الشركات العامة المحلية والخارجية، وتقليص عدد الوزارات والهيئات والمصالح، وتقليص البعثات الدبلوماسية واشتراكات المنظمات الدولية، وكذلك مصاريف التخصصات العلاجية في الخارج، وضبط وتحجيم المجالات الدراسية ومراحلها، كان يجب العمل على إصلاح نظام العضويات الداخلية والخارجية، وأن يراعى تفعيل قانون غسيل الأموال، ورسم استراتيجية ومنهج واضح لمكافحة الفساد، وتعزيز نظام الحوكمة، وترشيد الدعم أو كفالة استبداله، وإحياء سوق الأوراق المالية، وتفعيل أدوات الحكم المحلي، ومراجعة المشروعات المتوقفة، وتشجيع الاستثمار الداخلي، ودعم مشروع الخارطة الاستثمارية لهيئة تشجيع الاستثمار، وفتح المجال البرامج تطوير المطارات والموانئ والمناطق الحرة والصناعية من خارج الميزانية، ومشروعات الطاقة البديلة، وفتح مخططات جديدة، وإعادة النظر في سياسة الصندوق السيادي ليوجه جزء من استثماراته في الداخل، ومنع الاحتكار وضمان تكافؤ الفرص بين القطاعين الخاص والعام، إصلاح نظام إدارة المالية العامة ، ورفع كفاءة الإنفاق وتحسين جودته، وتطوير شبكة للأمان الاجتماعي وغيرها.
لكن كل ذلك لم يحدث ونشر كتاب لمصرف ليبيا المركزي مؤرخ في 15 ديسمبر 2019م، أشار فيه إلى اعتراضه على مقترح الترتيبات المالية للعام 2020م التي وردته من المجلس الرئاسي الحكومة الوفاق الوطني، والتي أبدى عليها ملاحظاته، وكانت اثنتان منها شكلية وثمانية تعلقت بجزء المصروفات وخمسة تعلقت بجزء الإيرادات، وفي مجلمها تنتقد التوسع في الإنفاق والزيادة غير المبررة لأبواب الميزانية إلى سبعة بدل ثلاثة، وتجاهل للدين العام، وعدم وجود رؤية لإصلاح فاتورة المرتبات والدعم.
الأمر الذي يبعث الأمل بأي إصلاح اقتصادي مرتقب خلال العام المقبل، ويؤكد تفاقم الفواتير الجارية للدين العام والفساد وسوء الإنفاق ومخالفة القانون.