د. علي عاشور
مع اقتراب شهر رمضان، يفترض أن يستعد الجميع لتصفية القلوب وضبط النفوس، لكن بعض النساء عندنا لديهن تفسير آخر لهذه الاستعدادات، وكأن الشهر الفضيل لن يدخل البيوت إلا إذا تم تجديد الطناجر، وإعادة تأهيل الجلسات، وترميم الستائر، وطلاء كامل المنزل، وربما هدم المطبخ وإعادة بنائه من جديد، فمن قال إن العبادة لا تكتمل إلا وسط أوان جديدة، وموائد تشبه سفرة ألف ليلة وليلة؟
بدأت الكثير من النساء الليبيات حملة التسوق الرمضانية منذ أيام، وكأنهن في سباق ماراثوني للتبضع، تدخل إحداهن إلى السوق بقائمة متواضعة، لكنها تخرج محملة بما يكفي لتموين حي بأكمله، فبعد شراء الطحين والسكر والزيت، تبدأ مرحلة الإضافات الرمضانية التي لا غنى عنها، فتقرر أن الجلسة القديمة لم تعد تليق بروح الضيافة ويجب استبدالها، ثم تتذكر أن الطناجر والصحون والملاعق أصبحت خارج الخدمة، ولا بد من طقم جديد يليق بمستوى الطبخ في هذه الأيام المباركة، وعندما يعترض الرجل على هذه الطلبات والمشتريات المتزايدة، يأتيه الرد الحاسم: خليهن يا حسن.
أما المحلات التجارية، فقد تحولت هذه الأيام إلى ميادين قتال، حيث تتنافس الجيوش النسائية على خطف آخر طنجرة غير قابلة للالتصاق، وكأنها درع حربي، فيما تقف أخرى أمام طقم الصحون وهي تمعن التفكير، هل تختار المزخرف بالنقوش الذهبية، أم ذلك الذي يشبه الصحون في المسلسلات التركية؟ وفي الخلف، هناك امرأة تنظر بحسرة إلى المعالق، وتسأل نفسها في صمت: هل هذه المعالق ستضيف نكهة روحانية لصحن الشربة الرمضانية؟
في خضم هذا السباق السريع نحو التسوق الرمضاني، لا تقتصر الظاهرة على الشراء فحسب، بل تتحول إلى استعراض فاخر للأدوات والمقتنيات، حيث تتفاخر بعض النساء بمشترياتهن الرمضانية وكأنهن يستعددن لمهرجان عالمي، فتتباهى إحداهن بقائمة مشترياتها التي تضم طنجرة ضغط إلكترونية، وسكاكين يابانية، وطاجين بيتزا فاخر من إحدى الماركات العالمية، بينما تصر أخرى على أن رمضان هذا العام يحتاج إلى فرن كهربائي جديد؛ لأن القديم قد استنفد قوته الروحانية.
وفي وسط هذه الدوامة المالية، يقف الزوج المسكين كمتفرج في مباراة خاسرة، ينظر إلى محفظته التي تصارع سكرات الموت، يحاول التفاوض والمقاومة، لكن سرعان ما تأتيه الضربة القاضية من أم العيال: (يا راجل رمضان يجي مرة في السنة) وكأن الشرع ينص على أن العبادة لا تكتمل إلا بتجديد أدوات المطبخ، وأن الملائكة ستنزل لتبارك الصحون الجديدة، بينما الميزانية تحتضر، والزوج يفكر في إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية قبل دخول الشهر الفضيل.
المصيبة لا تنتهي هنا، فبعد كل هذا الاستعداد، يأتي رمضان ويذهب، وتفتح الخزائن لتكشف الحقيقة المرة: الأواني الجديدة لم تستخدم إلا في التصوير لتنشر على الفيس بوك والإنستغرام، وستجدها مستخدمة بكثرة في حالات الواتساب، بجوارها الزينة الرمضانية المضيئة المعلقة على الستائر، أما المعالق فقد ظلت حبيسة علبها الفاخرة وكأنها تحف أثرية، عندها فقط يدرك الجميع أن كل هذا لم يكن سوى استعراض موسمي، وأن رمضان الذي أتى لتعليم الزهد والقناعة والشعور بالفقراء والمساكين صار موسماً للإنفاق بلا حساب والتباهي والرياء.
ولكن، صدق من قال خليهن يا حسن… فلكل شيء نهاية، ولكل سوق موسم، ولن يبقى إلا رمضان بروحه الحقيقية، شهر الرحمة والقرآن والإحسان، لا شهر الاستعراض والتفاخر وتصوير الموائد. خليهن يا حسن… حتى يأتي اليوم الذي يدرك فيه الجميع أن رمضان لتجديد الروح لا لتجديد الأثاث. خليهن يا حسن … إلى أن يأتي يوم يوزن فيه الإنفاق بالميزان، ويسأل فيه كل درهم أين ذهب وفيما أنفق.