منصة الصباح

الأَلْقَابُ… بَيْنَ الفَشْخَرَةِ وَالصَّوَابِ

باختصار

د. علي عاشور

 

متى يصبح اللقب حقاً مستحقاً؟ ومتى يكون مجرد ديكور للتباهي؟ هذا السؤال لم أجد إجابته في الكتب، ولا في قاعات المحاضرات، بل وجدت إجابته عند تعاملي مع محبي المجاملة والفشخرة الزائدة، ومن المراكز التي تمنح الدكتوراه الفخرية كما تمنح المخابز رغيف الخبز، ومن الجلوس مع بعض الشخصيات العلمية التي ترفض أن تنادى بألقاب التفخيم، بينما آخرون لا يرضون إلا أن يسبق اسمهم بخمس طبقات من الألقاب.

عندما كنت صغيراً، وبينما أنا اجلس مع والدي، سألته بكل براءة: كيف حالك يا حاج؟ كنت أظنه سؤالاً عادياً، لكنه فجر فيه غضباً مكتوماً، نظر إليّ نظرة لا أتمناها لأحد، وقال بحزم: إياك أن تكررها شعرت أنني ارتكبت خطيئة لا تغتفر، فسألته بذهول: لماذا؟ فأجابني وكأنه يلقنني درساً في الفلسفة العميقة: كيف تناديني حاجاً وأنا لم أحج بعد؟ تم أردف: أنا لا أحب الألقاب الممنوحة بالمجان.

كان درسه واضحاً وصريحاً، الألقاب تنال بالاستحقاق، لا بالمجاملة، ولكن يبدو أنني لم أتعلم الدرس جيداً، لأنني واجهت موقفاً مشابهاً بعد سنوات، لكن هذه المرة كنت أنا الضحية!

 بعد تخرجي من الجامعة، تم اختياري للعمل معيداًفي القسم، وكانت لحظة فخر تستحق الاحتفال، لكنها لم تكن كافية ليجعلني أطير في الهواء بلقب (دكتور) في أول زيارة لي بعد التعيين، استقبلني أحد الأساتذة المصريين بابتسامة عريضة قائلاً بلهجته الودودة: إزيك يا دكتور علي؟

  توقفت للحظة وكأنني سمعت صدى صوت والدي من الماضي، نظرت إليه وكأنني أراه من كوكب آخر، فقال لي وهو يطمئنني: إحنا في مصر: بنقول للمعيد دكتور، لأنها مسألة وقت بس قريب تاخد الماجستير وبعدها الدكتوراه.لكنني لم أبتلع هذه (المجاملة العلمية)، وقلت له بكل أدب وجدية: أرجوك نادني باسمي فقط، وعندما أحصل على الماجستير نادني أستاذ، وبعد الدكتوراه نادني دكتور، أما الآن فأشعر أن اللقب قد منح لي كمنح جائزة ترضية لأحد المشاركين

ابتسم الأستاذ وقال لي: إنت متأكد يا علي إنك مش مصري؟ عندك نفس الحساسية اللي عندنا تجاه الألقاب.  ضحكنا معاً، لكنني كنت مصمماً على موقفي.

     لكن مهلاً… ماذا عن هؤلاء الذين لا يمتلكون شهادة علمية، لكنهم يحملون لقب (دكتور) لمجرد أنهم دفعوا رسوماً لأحد (المعاهد أو مراكز التدريب الخاصة)ليمنحهم شهادة دكتوراه فخرية؟ هؤلاء لا يعانون من أي حساسية تجاه الألقاب، بل يصرون على كتابتها قبل أسمائهم، وكأنها وسام شرف، بل إن بعضهم يغضب إذا ناديته باسمه فقط، وكأنك جردته من حق مكتسب.

وفي المقابل أعرف أساتذة كبار، وأصحاب علم حقيقي وإنتاج فكري وتوثيقي، يكرهون أن يقدموا للجمهور بألقاب مثل: القامة العلمية والعالم الجليل….، ويرونها مجرد زوائد لفظية لا تضيف شيئاً، لأنهم يعلمون أن العلم لا يقاس بالألقاب بل بالإنجاز. هؤلاء لا يحتاجون إلى شهادة (مدفوعة الثمن) ليشعروا بقيمتهم، ولا يحرصون على أن يقدموا في كل مناسبة بعبارات التفخيم الرنانة.

     إننا نعيش في زمن تُوزع فيه الألقاب بسخاء، تماماًكما تُوزع الألقاب الملكية في الأفلام التاريخية، لكن الفرق بين اللقب الحقيقي واللقب الزائف، كالفرق بين الحاج الذي وقف على عرفات، وبين من يسمي نفسه حاجاً لأنه شاهد الحج على التلفزيون.

الألقاب قد تُمنح بسهولة، لكن المكانة لا تنال إلا بجهدٍ واستحقاق.

شاهد أيضاً

75 فريقًا يتنافسون.. الاتحاد الليبي يحدد نظام كأس ليبيا الجديد

أعلن الاتحاد الليبي لكرة القدم رسميًا عن شكل ونظام بطولة كأس ليبيا 2024-2025، التي ستنطلق …