دفـــق
بقلم / سعاد الوحيدي
جمعتني مع الراحل جمال الغيطاني، صداقة صوفية استثنائية. تطرزت (بين القاهرة وباريس)، بعشقنا المشترك للأدب والتصوف، والبحث في طلاسم الكلم الذي لا يفتح اسراره لغير أهل علم بذاته. وقد أورثني رحمه الله الكثير مما عنده. وقد كان سخياً بما تراكم لديه من كنوز فكرية، وذاكرة عاصرت أعاصير الأمة، وزمن هزائمها الأبشع. وتعلمت منه كيف يمكن أن نجد الجواهر في تربة الحرائق أينما كان الحفر. ومنه تأكد في قلبي هذا التفاؤل الدائم بأنه وراء كل إعصارهدوء، ووراء حرائق الغابات أرضاً خصبة تنبث الأزهار، وأجمل الأشجار. ولكني ورثت عنه بصورة خاصة عشقه الخرافي للقاهرة الفاطمية. لقد إكتسحني هذا العشق، كتسرب الدفء، لجسد أرعدته الوحشة، وأمست «قاهرته» وطناً لغربتي.
وأذ كان في تأسيس القاهرة عاصمةً للمعز، تجذراً حقيقياً لمشروع الدولة الفاطمية. إلا أن هذا الحدث، كان قد تدخل أبعد من ذلك، في صنع مواقع قوة/وسلطة جديدة في الميزان السياسي للدولة الاسلامية. حيث صارت عاصمة المعز، توازي وتضاهي عاصمة الخلافة ببغداد، التي كانت تنفرد بالسلطة حتى ذاك التاريخ. وشجعت على قيام محور ثالث في الأندلس، وخليفة آخر نادى بالسلطة باسم الأمويين. بحيث تبلورت، عبر قفزة عجائيبية في سياق الأحداث السياسية بالمنطقة، خارطة سياسية معقدة، تتنافس اطرافها على قيادة الأمة.. هذا المناخ بالذات، ووفق سياق آخر لقراءة التاريخ، قد ولدّ، بالمفهوم الحضاري للكلمة، ديناميكية خاصة للخلق والأبداع. حيث أخذ كل هؤلاء الخلفاء يدفع كل من جهته، بالعلماء والمبدعين …للعمل على إبراز مشروعيته وجدارته بالقيادة. وذلك على النحو الذي أحدث بعثاً جديداً لروح الحضارة العربية، وأسس لأكثر عهودها إزدهاراً.. وكانت ولادة القاهرة الفاطمية ذاتها، قد جاءت في هذا السياق الخرافي الملامح، حيث أراد بها قائد الجيش الفاطمي جوهر الصقلي؛ (أصيل جزيرة صقلية الإيطالية)، أن يقدم للخليفة الرابع للدولة؛ المعز لدين الله، عاصمة لا تشبه اي عواصم الكون. عاصمة يمكن له أن يطل من خلالها على مشارف الوجود.
وقد نجح النفوذ الفاطمي بالفعل في الوصول لأطراف جوهرية من خارطة الخلافة الإسلامية. (من القيروان، للمحيط الأطلسي، وجنوب إيطاليا، وحتى اليمن مروراً بالحرمين الشريفين). وأن يجعل من القاهرة المعزية منارة للعلم والفن والحضارة….فتحت أبوابها على آفاق الارض. وأنتجت أرثاً خرافي الإبداع؛ من قصور وحصون ومنابر ثقافية وكنوزاً فنية». تزركشت بألوان الابداع التصويري، الذي لم يكثرت لفتاوي التحريم بحق الصورة. وهي الحرية الفنية التي ستدفع قاهرة المعز ثمنها غاليا حال سقوط الدولة. حيث سيطال الهدم والتخريب قصور الفاطميين، وستباع تحفها على أرصفة الشوارع كأي متاع رخيص.. حتى انه لم يبق من عاصمة المعز اليوم الا جزءاً من قاعة الصلاة بالجامع الأزهر، وأربعة مساجد فاطمية (تتكاسل الى خلفية خان الخليلي)، وثلاثة أبواب من حصن المدينة: النصر والفتوح وباب زويلة..
يبقى إن بعض متاحف العالم لازالت تحتفظ بقليل من هذا الإرث، كمتحف الفن الاسلامي في برلين، ومتروبوليتان نيويورك، أو»فيكتوريا وألبرت» بلندن، وكنيسة «سان مارك» بالبندقية، وكنيسة أبت بفرنسا، بالإضافة لمتحف الفن الاسلامي بالقاهرة.. وقد حظي الجمهور الفرنسي بمشاهدة كل هذا الإرث، في معرض استثنائي بمعهد العالم العربي بباريس، عن «الكنوز الفاطمية». وكان من الطبيعي أن يُطلب من جمال الغيطاني، العاشق المجنون لقاهرة المعز، أن يقدم لكاتالوج هذا الحدث. حيث نقل للفرنسيين حيرته الكونية بشأن تلك المدينة وهل كانت:»أسطورة أم واقعا؟؟!»، ويجيب: «لا ندري بعد مرور أكثر من ألف سنة، سائر المصادر التاريخية المصرية تذكر تلك الواقعة التي جرت في ذلك اليوم البعيد المندثر، من فبراير عام 969 ميلادية، مئة ألف مقاتل من القبائل المغربية نزلوا هذا الإقليم من بر مصر، أرض فسيحة ممتدة شمال ثلاث مدن تعاقب تشييدها منذ الفتح العربي لمصر سنة 640 هجري: الفسطاط/ والعسكر/ والقطائع.
من اختار المكان؟ أهو القائد العكسري للجيش الفاطمي الغازي جوهر الصقلي، أم إنه أحد مساعديه، أم أحد عيون الفاطميين الذين عملوا من أجلهم قبل قدومهم من شمال إفريقيا …..ولكن ما من اجابة يقدمها لنا التاريخ».