نقطة نظــــام
بقلم : فوزي البشتي
ماذا يعني أن يتعانق الزمن عند الساعة الثانية عشر ليلاً ونضبط العقربين جيداً على توقيت « قرينتش » .. ومضة ثم نبدأ بالسنة الجديدة ، سنة تلو السنة ، نهيل التراب بباقة ورد وعقد فل أو ياسمين .. نافخين روايانا بهواء تفاؤل مصطنع متمتمين : القادم أفضل ويتحول الصوت المنفرد إلى مجموعة صوتية تردد : « القادم أفضل » .
القادم لم يكن أفضل القادم أصبح الماضي .. والقبو البارد الذي تركناه سنبلح منه في منزلق العام الجديد إلى قبو بارد آخر .
في الماضي ، حين كنا نكتب الإنشاء العربي في المدارس ، كنا نصطاد جملة نظنها تمتاز بالبلاغة والذكاء ونستهل بها الموضوع لنكتب :« كل يرى الحياة من منظاره الخاص ، منهم من يراها سوداء قاتمة ، منهم من يراها حافلة بالفرح » ولم نكن نعرف من أين أتى هذا المنظار الخاص لرؤية الحياة ، ولماذا الفئة الأولى ركبت عدسات سوداء وأخرى حافلة بالفرح ، سنواتنا القليلة لم تكن تبحث عن أصول الأشياء أو مسبباتها ، ولم يكن يعنينا كثيراً لماذا الأول متشائم والثاني متفائل ، اليوم بتنا نعرف جيداً ونعرف أيضاً من أين ينبع الأسود ونقيضه ونسخر ونحن نضبط العقربين على توقيت غرينتش حيث يتم لقاء المكان والزمن عند نقطة الصفر .
حين كنا أطفالاً لم نكن نعي الوقت ، فكل ما مضى هو الأمس وكل ما سيأتي هو الغد ، وتبدو روزنامة الزمن غامضة المعالم فنحضر التاريخ ثاني نقول : « من زمان » وللغرابة بدأ الوقت طويلاً حين أصبحنا مراهقين ، وكنا مشنوقين به ، نعاني من الضجر والرفض وعدم الرضا تماماً كما صورة « البرتومورافيا » في رواية السأم وشبهه برجل مستلق وعليه غطاء قصير وحائر ، إذا غطى وجهه كشف قدميه ، وإذا غطى قدميه كشف رأسه ، مختنق بحدود جهده ومرهون بحالته المزاجية المضطربة حينئذ كان الزمن يتثاءب ويتمطى وكان التعب والأنفعال حيلتنا للخروج من نقل خطواته ، وحيث تسلحنا بالنضج أو بتراكم السنين أضحى الزمن يطير ونسمع من بعضنا البعض جملة « أتصدق ؟ » كان هذا منذ عشرين سنة وكأنه الأمس .
ومن المسنين وحدهم نسمع هذه الجملة المكررة .. يمر العمر غفلة في رواية « الصخب والعنف » لوليم فوكنر .. يقول الجد لحفيده وهو يقدم له ساعته الثمينة .. إنني أهديك هذه الساعة لا لتتذكر الزمن بل لتنساه من حين إلى حين .. فالجد كان يدرك ثقل الزمن على الشباب وحاجتهم إلى هدوء ورغبتهم بنسيانه من حين لحين .